المحبّة للطبيعة لتقديم المساعدة

تخيّلوا عالم البيئة الحديث على أنّه جيمس بوند عالم الطبيعة، مجهّزًا بتقنيات متقدّمة بما في ذلك الأقمار الصناعيّة، GPS، الطوّافات متعدّدة المراوح والذكاء الاصطناعيّ، إلى جانب الأساليب القديمة. يهدف المشروع إلى تتبّع الحياة البرّيّة في البحر، على سطح الأرض وفي الجوّ، مراقبتها وفهم عالمها، لتحسين أساليب الحفاظ عليها والبحث في مجال الحياة البرّيّة. في الماضي، كان الناس يتتبّعون الحيوانات لغرض البقاء على قيد الحياة، أو لتحقيق مكاسب شخصيّة، لكن اليوم يتمّ ذلك للحفاظ على النظام البيئيّ ومنع الأضرار. بالإضافة إلى الفوائد التي تعود بها هذه التقنيّات، فإنّها قد تُستخدَم أيضًا لأغراض شرّيرة، بما في ذلك الصيد. يعمل البحث بشكل مستمرّ على تطوير أدوات وطرق مراقبة، للمساعدة في الحفاظ على الطبيعة وبناء مستقبل مُستدام.


حامل عملة معتمد يحمل طائرًا أثناء عمليّة تحجيل الطيور في محطّة لأبحاث الطيور في القدس. كيخلي رونين على وشك أن يحصل على خاتم على مقاسه قبل أن يطلق سراحه | الصورة: كاسانيا جوربيل

من المشاهدة الأولى حتّى جهاز الإرسال المتقدّم

عندما شاهد إكسينوفون وأرسطو الطيور وهي تعبر السماء، لم يتخيّلا الطريق من دهشتهما إلى العلم المعاصِر. وبعد مرور ما يقرب من ألفي عام، في القرن التاسع عشر، قام عالم الأحياء الدنماركي هانز كريستيان مورتنسن (Mortensen) بتحويل تتبّع الطيور إلى مهنة علميّة. قام بربط حلقات من الألومنيوم حول طيور الزرزور في حديقته، ممّا جعل من الممكن تتبّع هجرتها. هذه الطريقة، التي بدأت بفكرة بسيطة، وهي التحجيل، لا تزال تشكل أداة مركزيّة في أبحاث الطيور. في البلاد، يراقب مركز علم الطيور الطيور بمساعدة محطّات تحجيل عديدة في جميع أنحاء البلاد، ومن خلال الجمع بين التطبيقات والعلم المدنيّ، أيّ بالتعاون مع عامّة الناس. يشارك الأطفال، العائلات وعشّاق الطبيعة في هذا الجهد، حيث يلتقطون الصور ويبلغون عن مشاهداتهم، بالتالي يساهمون في المعرفة العلميّة. يمكن التعرّف على الحلقات الموجودة على الطيور باستخدام المنظار أو الكاميرا، وتوفير المعلومات لمراقِب الطيور. يمكن رؤية العلامات التي يعلّقها الباحثون على أجنحة النسور والأحزمة، التي يعلّقونها على غواصي المستنقعات حتّى من مسافة بعيدة.

تُعدّ التكنولوجيا المتطوّرة أداة قويّة لأبحاث الهجرة. تساعد أجهزة الرادار (التي تحدّد الاتّجاه والمسافة بمساعدة موجات الراديو) القوّات الجوّيّة على منع الاصطدامات المتبادلة بين الطيور والطائرات. لكنّ التتبّع لا يتوقّف عند هذا الحدّ. مع التقدّم المتزايد في التكنولوجيا، بدأ الباحثون في ربط أجهزة إرسال صغيرة لنظام تحديد المواقع العالميّ (GPS) على ظهور الطيور، مما يُتيح تتبّع تحرّكات الطيور بدقّة مذهلة. تساعد هذه الأجهزة المرسلة ليس فقط في دراسة أنماط الهجرة، بل وأيضًا في منع الكوارث. على سبيل المثال، ركّبت هيئة الطبيعة والمتنزهات أجهزة إرسال على أعقاب النسور لمنع التسمم، كما جُهّزت النسور والنسور السوداء الأوراسية بأجهزة إرسال، توفّر معلومات حول صحّتها وموائلها. وقد جُهّزت أنواع الطيور الأصغر حجمًا، بما في ذلك صقور النقب، بأجهزة إرسال ملائمة، وتُرسَل البيانات التي تُجمَع للتحليل في تطبيقات مخصّصة. لا توفّر عمليّات نقل الطيور معلومات مادّيّة فحسب، بل تكشف أيضًا عن رؤى حول سلوكها، وفي بعض الأحيان في مساعدة البشر، على سبيل المثال، استخدام الطيور المنقولة لمسح المنطقة بعد أحداث 7 أكتوبر 2023. على سبيل المثال، أظهرت دراسة أُجريت على طيور اللقلق، أنّ اللقالق الأكثر نشاطًا تعيش لفترة أطول أثناء الهجرة.

ليست الطيور وحدها تهاجر، بل الحشرات أيضًا. يُراقب مشروع علميّ مدنيّ الفراشات في جميع أنحاء البلاد، يقدّم تقارير عن العديد من أنواع الفراشات ويصوّرها، ويتبّع أنواع الفراشات الغازيّة. يتتبّع “رادار الحشرات” حركة الحشرات حول العالم، ويحذر من تفشّيها بشكل خطير، مثل هجرة الجراد. وتتيح التقنيّات المدمجة، مثل الطائرات متعدّدة المراوح وأجهزة الإرسال الصغيرة، تتبّع النحل أيضًا. وبعضها مزوّد بأجهزة إرسال توفّر معلومات حول تحرّكاتها. كما أصبحت الخفافيش، وهي الثدييات الطائرة، هدفًا لتقنيّات التتبّع المتقدّمة. يستخدم نظام أطلس، الذي يعمل في البلاد، هوائيّات لتحديد تحرّكات الخفافيش. كشفت المعلومات التي قدّمتها عن القدرات الملاحيّة المذهلة التي تتمتّع بها الخفافيش، والتي تعتمد على الذاكرة المكانيّة للتنقّل. وهكذا فإنّ تتبّع الكائنات التي تحلق في السماء – سواء كانت طيورًا أو حشرات أو ثدييّات – يعلّمنا فصولًا جديدة عن عالمها.


فراشة الأزرق الشائع تقف على نبتة الحاجبيّة المظليّة. توثيق العلوم المدنيّة في غابة مير في القدس | صورة: كاسينيا جورفيل

أجهزة التتبّع والطائرات متعدّدة المراوِح

تُعدّ كاميرات المراقبة أداة أساسيّة لتتبّع الحيوانات على الأرض. توضَع هذه الكاميرات في نقاط استراتيجيّة. تُشغَّل بواسطة أجهزة استشعار الحركة، وتوفّر رؤى رائعة عن الحياة اليوميّة للحيوانات. مع ذلك، فإنّ استخدامها يتطلّب صيانة منتظمَة وتحليلًا دقيقًا للموادّ المصوّرة. وهناك طريقة أخرى تتمثّل في إجراء مُسوحات مركّبة، حيث يقوم المراقبون بمسح المنطقة، في بعض الأحيان بواسطة مركبة، لتقييم حالة أعداد الحيوانات في البلاد، على سبيل المثال الغزلان. هناك أيضًا تطبيقات تساعد في هذا الأمر، مثل الـ Waze، الذي يسمح بالإبلاغ عن الحيوانات التي تتعرّض للدهس، وبالتالي يوفّر معلومات تساعد العلماء على تحديد أنماط حركة الحيوانات، وتحديد المناطق التي تتعرّض فيها الحيوانات للخطر.

ليست جميع الحيوانات مُتاحة للتّصوير المباشِر، وفي هذه الحالات تكون هناك حاجة إلى أساليب أكثر تقليديّة، مثل أدوات التتبّع. يمكن للآثار، الفضلات، الريش، الحوافر، القرون، وغيرها من العلامات أن تكشف عن وجود حيوانات غير مرئيّة للعين المجرَّدة. السمندر من الحيوانات المهدّدة بالانقراض والخجولة للغاية، وفي البلاد تُراقَب بمساعدة تقارير مدنيّة، بينما في الولايات المتّحدة تُراقَب بواسطة القياس عن بعد، بواسطة منظّمات الحفاظ على الطبيعة. تمثّل هذه الأساليب التقليدية جسرًا بين الماضي غير التكنولوجيّ والمستقبل المتقدّم، من خلال توفير معلومات عن الأنواع المراوغة أو النادرة، التي أفلتت من أدوات التتبّع الحديثة. ويربط التتبّع، الذي يستخدمه الباحثون المحترفون والمجتمعات المحلّيّة، بين الطبيعة والمراقبة البشرية، وبين التقاليد والتقدّم.

تسمح أجهزة الإرسال بتتبّع الثدييات والزواحف الكبيرة بشكل أكثر دقّة. وفي البلاد، تُرسَل الثدييات الكبيرة، مثل الأيائل السمراء، ظباء الرعي، الغزلان والضباع، لدراسة تحرّكاتها والتعرّف على ظروف معيشتها. زيونا هي أنثى الضبع وقد تمّ اصطيادها في منطقة القدس، ومن ثم إطلاقها مع جهاز إرسال في منطقة النقب لفهم أنماط حركتها. وتساعد أجهزة الإرسال أيضًا في تتبّع الزواحف، مثل السلاحف البريّة، التي تُطلَق في البرية وتُراقَب تحرّكاتها في الفضاء.

الحشرات لم تُنسَ أيضًا: تُراقَب الحشرات بالطريقة القديمة باستخدام شبكة الفراشات أو مصيدة ماليس، التي سُمّيَت على اسم عالم الحشرات السويديّ ّرينيه ماليس (Malaise)، الذي اخترع هذه الطريقة، ولكن إلى جانب هذه الطرق التقليديّة هناك طرق حديثة: يُراقَب النحل الفرديّ باستخدام تقنيّات متقدّمة، مثل التصوير المقطعيّ المحوسب الذي يكشف عن هياكل التعشيش الخاصّة بها تحت الأرض، كما يوفّر تتبّع النمل بأجهزة استشعار إلكترونيّة للمزارعين تحذيرات حول الآفات التي تضرّ بالمحاصيل. وتنضمّ الطائرات متعدّدة المراوِح، التي يمكنها مسح مناطق واسعة، وتحديد هويّة الحيوانات باستخدام الكاميرات الحراريّة، إلى أدوات البحث أيضًا. وفي البلاد، تُدرَس إمكانيّة استخدام طائرات متعدّدة المراوِح المزوّدة بكاميرات لإحصاء أعداد الغزلان، وبالتالي تقليل الإزعاج للحيوانات وتحسين جودة البيانات.


وُثِّق ذكر غزال البلاد بفرائِه الشتويّ من قبل العلم المدنيّ في بيئته الطبيعيّة، في غابة مير في القدس | الصورة: كاسينيا جوربيل

مراقبة تحت الماء

في مراقبة الحياة البحريّة، تتيح التقنيّات المبتكرة مراقبة الحيوانات ودراستها، التي تكون في الغالب مخفيّة عن أعيننا. على سبيل المثال، تُجهَّز السلاحف البحريّة بأجهزة إرسال عندما تُطلَق في البرية، إمّا بعد العلاج وإعادة التأهيل أو كجزء من دراسات الرصد. يسمح استخدام هذه التكنولوجيا بمعرفة تحرّكاتهم في البحر الأبيض المتوسط ​​والتهديدات التي يواجهونها. وفي الوقت نفسه، حتّى التقارير البسيطة من المراقبين عن السلاحف التي شوهدت أو أصيبت، لا تزال تلعب دورًا هامًّا في فهم حالة أعدادها.

وتُراقَب أيضًا الشعاب المرجانيّة، وهي موائل غنيّة ومتنوّعة، باستخدام أدوات متطوّرة. وتسمح المجاهر تحت الماء للعلماء بمراقبة الشعاب المرجانيّة عن كثب، ومراقبة حالتها في الوقت الحقيقيّ. في حين أنّ معظم الشعاب المرجانيّة لا تتحرّك بشكل نشط من مكان إلى آخر، فإنّ الشعاب المرجانيّة الفطريّة قادرة على الحركة، وقد تمّ اكتشافها مؤخّرًا أنّها تتبع الضوء. تم التوصّل إلى هذا الاكتشاف في الدراسة، من خلال تتبّع حركة المرجان في حوض السمك البحثيّ، بواسطة تصوير مقاطع فيديو له على هاتف آيفون. تقيس الأقمار الصناعية درجة حرارة المياه، تركيز الكلوروفيل، وغيرها من المؤشرات، ممّا يساعد في تحديد العلامات المبكّرة للضيق في الشعاب المرجانيّة في المناطق النائيَة. تساعد هذه المراقبة على مكافحة تبييض المرجان، وهي عمليّة مميتة ناجِمة عن ارتفاع درجة حرارة المياه، ممّا يعرّض النظم البيئيّة البحريّة للخطر.

يوضّح تعقّب الحيتان المزيج الرائع بين استخدام الموجات الصوتيّة التي تنتج بيانات صوتيّة والأقمار الصناعيّة. يُحدِّد نظام “مشاهدة الحيتان (WhaleWatch)، الذي طُوّر بالتعاون مع وكالة ناسا، موقع الحيتان الزرقاء باستخدام أجهزة استشعار تراقب الأصوات الفريدة التي تصدرها. يوفّر النظام معلومات عن تركيز الكلوروفيل في البحر، درجة حرارة سطح الماء، التيّارات وأكثر من ذلك. تتيح هذه المعلومات المتعلّقة بظروف البحر إمكانيّة التنبّؤ بالأماكن التي من المرجّح أن تسبح فيها الحيتان. وتساعد المعلومات، التي تُدمَج مع بيانات الأقمار الصناعيّة، على منع الاصطدامات بين الحيتان والسفن، تساهم في الحفاظ عليها وتؤدّي إلى وفورات كبيرة بسبب منع الأضرار. علاوة على ذلك، تفتح تكنولوجيا الـ DNA البيئيّ (eDNA) نافذة جديدة لفهم العالم الرطب. تستخدم عيّنات المياه لتحديد مواقع الأسماك والأنواع الحيوانيّة في النظم البيئيّة الفريدة، مثل غابات المانجروف، ويكشف الـ DNA القديم (aDNA) عن تاريخ الأنواع المنقرضة، ويساهم في مراقبة العمليّات البيئيّة على مدى فترة طويلة من الزمن. تشكّل مجموعات الطبيعة مصدرًا مهمًّا لهذا النوع من المراقبة. إنّها تسمح لنا بتتبّع الماضي لفهم حاضر ومستقبل الحياة البحريّة بشكل أفضل، وليس فقط لهم، من خلال منظور واسع وعميق.

فيديو من الصندوق العالميّ للحفاظ على الحياة البرّيّة حول الـDNA البيئيّ المستخدم لتتبّع الحيوانات

مستقبل المراقبة: الذكاء الاصطناعيّ

يغيّر الذكاء الاصطناعيّ وجه تعقّب الحيوانات، ويوفّر لنا إمكانيّات غير مسبوقة لفهم عالمها. إنّ تتبّع عمليّات التنفّس باستخدام نظام الأطلس، الذكاء الاصطناعيّ، ومشاريع أخرى، تجمع البيانات التي جُمِعت على مدى سنوات عديدة في نماذج ذكيّة لدراسة حركات الحيوانات وسلوكها. يوفّر البحث الذي يجريه المواطنون، حيث يلتقط الأشخاص الصور ويبلغون عن ملاحظاتهم، مجموعات بيانات ضخمة، والتي توفّر الأساس لتحليلات الذكاء الاصطناعيّ المتقدّمة. وتفتح هذه المبادرات وغيرها من المبادرات المماثلة إمكانيّات جديدة، للحفاظ على الطبيعة والإدارة الذكيّة للبيئات الطبيعيّة.

تعمل شركة IBM على تطوير مجهر يعتمد على الذكاء الاصطناعيّ قادر على تتبّع العوالق، وهي كائنات حيّة صغيرة تنجرف في تيّار الماء. ورغم أنّ هذه الكائنات الحيّة مجهريّة وليست حيوانات، فإنّ تتبّع أنماط حركتها يسمح بقياس جودة المياه، ويوفّر مؤشّرًا مهمًّا لصحّة البيئة البحريّة. وفي الوقت نفسه، لتتبّع الحيوانات الأكبر حجمًا، هناك حلول ذكية مثل WildMe، وهو نظام يسمح بتحديد وتحليل صور الحيوانات والعثور على أنماط فريدة لها، مثل بصمات الأصابع. إنّ مراقبة الوشق الأيبيري في إسبانيا والمشاريع المماثِلة توضّح إمكانات التكنولوجيا، في تتبّع الأنواع النادرة والحفاظ عليها من خلال التعريف الفرديّ والمراقبة. وبالعودة إلى البحر، تريد السويد معالجة مشكلة الصيد غير القانونيّ، وتتبّع مجموعة متنوّعة من الأنواع باستخدام الذكاء الاصطناعيّ والكاميرات الموجودة على قوارب الصيد.

وكما هو الحال مع أيّ تكنولوجيا متقدّمة، هناك تحدّيات هنا أيضًا: إنّ حجم جهاز الإرسال يحدّ من إمكانيّة التتبّع، فضلًا عن تكلفة الصيانة والآثار المحتملة لموجات جهاز الإرسال على الحيوانات. وتثير هذه القيود تساؤلات حول الاستخدام الصحيح لهذه الأدوات. وعلى الرغم من التحدّيات، فإنّ التقنيّات الجديدة سوف تستمرّ في توسيع فهمنا للعالم الطبيعيّ، وتغيير الطريقة التي نرى بها مكاننا فيه. من أوّل تتبّع لآثار الأقدام في الرمال والثلوج إلى الصور في أعماق البحر وفي اتّساع السماء، يذكرنا كلّ تقدّم تكنولوجيّ بأنّ فهم الطبيعة والحفاظ عليها هو أيضًا الحفاظ على مستقبلنا.