لقد مرّت الكرة الأرضية، بعد أن نشأت وتكوّنت قبل حوالي 4.5 مليار سنة، بعمليّات كثيرة إلى أن أصبحت بهيئتها الّتي نراها عليها اليوم. تكوّنت المحيطات خلال مئات الملايين من السنين، وظهرت القارّات الأولى بعد ذلك. كان الاعتقاد السائد بأنّ الماء العذب ظهر بعد تكوّن المحيطات وظهور القارّات، إذ اعتمد أوّل دليل لوجود المياه العذبة على دراسة متحجّرات الكائنات أحاديّة الخليّة الّتي تواجدت قبل حوالي 3.5 مليار سنة. لكن، هل حقًّا ظهرت المياه العذبة في الطبيعة في ذلك الوقت؟ تشير دراسة جديدة إلى أنّ المياه العذبة تواجدت على الكرة الأرضيّة قبل ذلك بـِ 500 مليون سنة على الأقلّ.
ينبغي علينا إجراء البحث والدراسة على الموادّ القديمة بالغة الثبات- أي الموادّ الّتي لم يحصل عليها أيّ تغيير منذ تكوّنها- كي نجيب عن الأسئلة الّتي تتعلّق بالكرة الأرضيّة في بداية عمرها. يحوي الركام الصخريّ الموجود في تلال “جاك هيلز” غرب أستراليا- وهو أحد المجمّعات الصخريّة الأكثر قدمًا- بلورات من معدن الزيركون (Zircon).
يُستخدم الزركون كمصدر معلومات مهمّ في دراسة الجيولوجيا (طبقات الأرض) القديمة للكرة الأرضيّة، لأنّه كان قد تكوّن داخل تيّارات الصُّهارة (الماغما) على الكرة الأرضيّة في قدم عهدها أثناء برودتها، وهو، أي الزيركون مادّة مستقرّة جدًّا. يتيح عنصر اليورانيوم الموجود في الزيركون تحديد تاريخ عمره، إذ يتحلّل اليورانيوم تحلّلًا إشعاعيًّا طويل الأمد بوتيرة ثابتة، الأمر الّذي يتيح لعلماء طبقات الأرض (الجيولوجيّين) تقدير عمر البلورة، وتعدّ هذه أفضليّة مهمّة جدًّا تكمن في معدن الزيركون. يُقدّر عمر أقدم بلورة من الزيركون، وجدت في “جيك هيلز” أيضًا، بـِ 4.4 مليار سنة، وهي أقدم ما تمّ العثور عليه من مخلّفات كوكبنا.
كيف يمكن أن نستقي المعلومات عن دورة المياه في الطبيعة من الزيركون؟ يدمغ الماء الزيركون بدمغة من ذرّات الأوكسجين عندما يلامسه. يترك الماء العذب ذرّات الأوكسجين الأخفّ وزنًا في الزيركون عند التلامس بينهما، بينما تترك المياه المالحة ذرّات الأوكسجين الأثقل. حلّل علماء طبقات الأرض النسبة بين ذرّات الأوكسجين (ذات الكتل المختلفة، أي النظائر أو الإيزوتوبات)، في الزيركون ووجدوا مؤشّرًا لوجود ماء عذب عمره 4 مليار سنة على الأقلّ، أقدم ب 500 مليون سنة من التقديرات السابقة.

يحوي الركام الصخريّ الموجود في تلال “جاك هيلز” في غرب أستراليا- وهو أحد المجمّعات الصخريّة الأكثر قدمًا- بلورات من معدن الزيركون (Zircon). يحمل أحد الباحثين صخرة من تلال جاك هيلز| Curtin University
البحر – اليابسة
يشير وجود المياه العذبة إلى وجود الأرض اليابسة قبل وقت أطول كثيرًا ممّا كان معتقدًا حتّى الآن. تنجم عن ذلك إسقاطات بعيدة المدى على فهمنا للكرة الأرضيّة في بداية عهدها. تنجم العلاقة بين المياه العذبة وبين وجود اليابسة عن دورة المياه في الطبيعة: يتحوّل الماء، مهما كان مصدره، عند تبخّره إلى مياه عذبة خالية من الأملاح الّتي قد يكون قد احتوى عليها قبل التبخّر. تتكثّف المياه المتبخّرة وتصبح غيومًا وتهطل كأمطار. تختلط المياه الهاطلة على المحيطات من جديد بمياه المحيط المالحة. تُكوّن، بالمقابل، المياه الهاطلة على اليابسة مصدرًا للمياه العذبة، كالنهر أو البحيرة- قبل أن تعود إلى المحيط. قد تعود المياه الّتي هطلت على شكل مطر وتتبخّر من البحيرات أو من المحيطات تارة أخرى لتبدأ الدورة من جديد.
تُسمَّى هذه العمليّة الدوريّة الّتي تحدث على الكرة الأرضيّة بدورة المياه. اختلطت المياه الّتي تبخّرت ثمّ هطلت على شكل أمطار، قبل وجود اليابسة، دائمًا بمياه المحيط المالحة. من هنا فإنّ ظهور المياه العذبة في الطبيعة مشروط أو منوط بوجود اليابسة. يبدو أنّ القارّات على الكرة الأرضيّة تكوّنت في وقت أقدم ممّا اعتقدنا سابقًا.
تعلو، في أعقاب المقالة، اسئلة تتعلّق بظهور أوّل حياة على الكرة الأرضيّة- أو على اليابسة على أقلّ تقدير. يدلّ أقدم كشف مباشر لذلك، والموجود في محيط من المياه العذبة، على وجود الحياة قبل حوالي 3.5 مليار سنة، علمًا بأنّ هناك من يدّعي بوجود دلائل أكثر قدمًا مصدرها من مياه البحر، إلّا أنّها ما زالت تثير الانقسام والجدال بين الباحثين. وفّرت الدراسة المعروضة أعلاه دليلًا على وجود الظروف المؤاتية للحياة على الكرة الأرضيّة قبل أربعة مليارات من السنين، كما وشقّت الطريق لمتابعة الدراسات والأبحاث حول إمكانيّة ظهور حياة أقدم ممّا تمّ الكشف عنه حتّى الآن على الكرة الأرضيّة.