عطاء بلا مقابل: كيف يعمل الإيثار في الدّماغ؟
ما الّذي يدفعنا إلى التّنازل من أجل الآخرين؟ بحثٌ جديد يكشف الصلة بين مستقبلات الأفيونات في الدّماغ والسّلوك الإيثاريّ، ويُظهر أنّ هناك آليّات بيولوجيّة تشجّعُنا على المساعدة دون مقابل
على مدار العامَيْن الماضيَيْن، شهدنا على العديد من الحالات الّتي فضّل فيها النّاس رفاه الآخرين على رفاهِهم الشّخصيّ. فقد تبرّع كثيرون بوقتهم ومالهم، بل وبعضهم خاطَر بحياته من أجل الغير. ما الّذي يجعل البشر يقومون بأفعال تبدو وكأنها تتعارَض مع مصلحتِهم الذّاتيّة المباشِرة؟
العمل الإيثاريّ هو فعلٌ يتخلّى فيه الفرد عن رفاهِه الشّخصيّ لصالح الآخرين، الّذين لا تربطبهم صلة قرابة جينيّة. من منظور البقاء، يبدو هذا السّلوك غير منطقيّ، بل وقد يقلّل من فرص الفرد في النّجاة. مع ذلك، فالإنسان ليس الكائن الوحيد في عالمنا الّذي يُظهر سلوكًا إيثاريًّا؛ إذ لوحظت ظواهر مشابهة لدى حيوانات أُخرى، مثل مشاركة الغذاء مع أفراد آخرين أو حمايتهم من المفترسات. المكافأة لدى الحيوان الإيثاريّ قد تكون عبارة عن تلقّي مكانةً مهيمنة في المجموعة، أو تكيّفًا أفضل معها، أو حصوله على العون من الآخرين في حال وجد نفسَه في موقف الحاجة.
إنّ ظهور السّلوك الإيثاريّ لدى أنواع حيوانات عديدة ومتنوّعة يوحي بأنّ لهذه الظّاهرة أساسًا بيولوجيًّا، يتجاوز حدود الثّقافة والمعايير الاجتماعيّة لدى الإنسان. وهنا يبرز السؤال: ما هو الأساس الدماغيّ للإيثار؟ دراسة نُشرت العام الماضي وجدت أنّ السّلوك الإيثاريّ عند الإنسان مرتبط بنشاط مستقبلات الأفيونات في الدماغ.
أشارت الدّراسات إلى وجود صلة بين النّظام الأفيونيّ في الدّماغ وسلوكيّات مساعدة الآخرين والسلوكيّات الاجتماعيّة. ثلاثة أنواع فرعيّة من مستقبلات الأفيون | رسم: Juan Gaertner / Science Photo Library
ألم الآخرين
في بعض الخلايا العصبيّة في دماغنا توجد مستقبلات ترتبط بموادّ تنتمي إلى عائلة الأفيونات. عندما ترتبط هذه الموادّ – الّتي يُفرزها الجسم طبيعيًّا – بمستقبلٍ كهذا، فإنّها تقلّل من نشاط الخليّة العصبيّة. أشارت أبحاث سابقة إلى وجود صلة بين الجهاز الأفيونيّ وسلوكيّات المساعدة، وإظهار التّعاطف مع معاناة الآخرين والسّلوك الاجتماعيّ.
هذه المجموعة من الموادّ اسمها مشتقٌ من قربها من مادّة الأفيون – وهو مخدّر يُستخرج من صمغ نبات الخشخاش، والّذي على أساسه أيضًا يُنتَجالمورفين والهيروين والفنتانيل. إنّ تنشيط المستقبلات يساعد على تسكين الآلام الشّديدة. لكن في الوقت نفسه، هذه الموادّ هي موادّ مسبّبة للإدمان، تُستهلك أحيانًا كمخدّرات بسبب إحساس النّشوة (Euphoria) الّذي تُحدثه. إنّ فرط تنشيط هذه المستقبلات قد يؤدّي إلى انخفاض معدّل التنفّس وعمقه، وقد يؤدّي إلى الوفاة.
إلّا أنّ الأفيونات لا تقتصر على تسكين الألم؛ فقد أظهرت دراسات على القرود، أنّ الجهاز الأفيونيّ مرتبطٌ أيضًا بالسلوك الاجتماعيّ. على سبيل المثال، أدّى حجب مستقبلات الأفيونات إلى زيادة دافعيّة القرود للتّفاعل مع قرود غيرها. أمّا لدى البشر، فقد وُجد أن الأشخاص الّذين استهلكوا الأفيونات بصورة مزمنة – وليس لأغراض طبّيّة – أظهروا حساسيّة أقلّ لألم الآخرين، على الأرجح بسبب خلل في نشاط هذه المستقبلات.
نتائج أخرى أظهرت أنّ العلاقة بين الألم والسّلوك المؤاتي للمجتمع هي علاقة ثنائيّة الاتّجاه. على سبيل المثال، في دراسة من عام 2022 وُجد أنّ أشخاصًا تلقّوا مسكّنات ألم وهميّة (بلاسيبو-Placebo) كانوا أقلّ ميلًا لاتّخاذ قرارات تخدم الصالح العامّ. أي أنّ تجربة الألم الشّخصيّ وتسكينه، من خلال الجهاز الأفيونيّ، يؤثّران على السلوك الاجتماعيّ وعلى الاستعداد لمساعدة الآخرين.
أثناء مسح نشاط أدمغتهنّ، شاهدت المشاركات مشاركة-ممثّلة، تتلقّى صدمات كهربائيّة مؤلمة. ثم عُرِض على المشاركات التّبرّع بجزء من مكافأتهنّ الماليّة: كلّما تبرّعوا أكثر، قلّت معاناة المشاركة الأخرى. أمّا إذا لم يتبرّعن بأيّ شيء، فلن تتغيّر شدّة الصّدمة الكهربائيّة في الجولة التالية. | من Chen et al., 2024
تجربة في التّعاطف
استنادًا إلى هذه النّتائج، صَمَّم الباحثون تجربة تتيح فحص العلاقة بين مستقبلات الأفيونات والسّلوك الإيثاريّ بطريقة خاضعة للرّقابة. أُجريَت التّجربة على نساء فقط، نظرًا لاختلاف نظام المستقبلات الأفيونيّة بين الذّكور والإناث، وشملت ثلاثين مشترِكة.
تألّفت التّجربة من مرحلتَيْن: في المرحلة الأولى، استعان الباحثون بتقنيّة التّصوير المقطعيّ بالإصدار البوزيترونيّ (PET)، لفحص توزيع كمّيّة المستقبلات الأفيونيّة المُتاحة للارتباط في أدمغة المشاركات أثناء الرّاحة. في المرحلة الثّانية، قيل للمشاركات إنّ البحث يختبر النّشاط الدّماغيّ استجابةً لصدمات كهربائيّة مؤلمة أو استجابة لمشاهدتها عبر كاميرا بدائرة مغلقة، تصوّر امرأة أخرى تتعرّض لها. ثمّ أُجريَت قرعة وهمّيّة بين المشاركة الحقيقيّة وامرأة ممثّلة من طاقم التّجربة (تظاهرت بدور مشاركة من المشاركات)، بحيث كانت هي من تتلقّى الصّدمة الكهربائيّة بينما تراقبها المشاركة الحقيقيّة.
بعد القرعة الوهميّة، أُدخلت المشاركات إلى جهاز التّصوير بالرّنين المغناطيسيّ الوظيفيّ (fMRI)، الّذي يُتيح متابعة أنماط النّشاط في مناطق الدّماغ أثناء أداء مهمّة معيّنة. خلال التّصوير شاهدت المشاركات على شاشة مقطعًا مصوّرًا من قبل، يُظهر المرأة (الممثّلة التّابعة لطاقم التّجربة)، وهي تتلقّى صدمات كهربائيّة وتُبدي آلامًا ومعاناة واضحة. بعد الجولة الأولى، وعد الباحثون المشاركات بمكافأة مالية لقاءَ مشاركتهنّ في التّجربة، ثمّ اقترحوا عليهنّ صفقة: إن تبرعنّ بجزء من مكافأتهنّ الماليّة، فالباحثون سوف يخفّفون من شدّة صدمة الكهرباء الّتي ستتلقّاها المرأة الأخرى (التّابعة لطاقم التّجربة) في الجولة التّالية. كلّما زادت المساهمة الماليّة، تقلّ معاناة المرأة الثّانية – وإذا لم يتبرعنَ بشيء فلن تتغيّر شدّة الصّدمة الكهربائيّة في الجولة الثّانية.
أراد الباحثون معرفة العلاقة بين وفرة مستقبلات الأفيونات في أدمغة المشاركات من جهة، ونشاط أدمغتهنّ وقراراتهنّ من جهة أخرى – كم هو المبلغ الذي يرغبن في التّنازل عنه لتقليل معاناة امرأة غريبة. تبيّن أنّه عندما اتّخذتِ المشاركات قرارًا إيثاريًّا، ارتفع استعدادهنّ للتّبرّع بمبالغ أكبر، بقدر ما ارتفع مستوى النّشاط في المناطق الدماغيّة المرتبطة بالتّعاطف وفهم الآخرين. علاقة مشابهة ظهرت أيضًا بين الرّغبة في التّبرّع ونشاط مناطق مرتبطة بمعالجة الألم، وذلك رغم أنّ المشاركات لم يتعرَّضن للألم بأنفسهنّ، وإنّما شاهدن فقط أُخرَيات يتألَّمن – وهو مؤشّر قويّ على التّعاطف والتّماهي.
كلّما قلَّ عدد المستقبلات الأفيونيّة المتاحة للارتباط في حالة الرّاحة، تبيّن أنّ النّشاط في مناطق الدّماغ المرتبطة بالألم والتّعاطف، قد ازداد عند مشاهدة الفيديو. كما أنّه على المستوى السّلوكيّ، فقد تبرّعت المشاركات لاحقًا بمبلغ ماليّ أكبر من أجل تقليل معاناة المرأة الّتي تلقّت صدمات كهربائيّة. بالمقابل وعلى نقيض ذلك، في المرحلة الّتي عُرض على المشاركات التبرّع من مكافأتهنّ الماليّة للتخفيف عن المرأة الّتي تلقّت صدمات كهربائيّة، لوحظت ظاهرة معاكسة. لدى المشاركات اللّواتي وُجدت كمّيّة عالية من المستقبلات الأفيونيّة، في مناطق التّلفيف الحزاميّ الأماميّ والحُصَين (Hippocampus)، وهي مناطق في الدّماغ مرتبطة بالفهم الاجتماعيّ وبالذّاكرة (بالتّرتيب على التّوالي) – وبالتّالي فهي مناطق تشارك أيضًا في مشاعر التّعاطف – كانت هذه المناطق أكثر نشاطًا في الواقع، مقارنةً بمن كان لديهن عدد أقلّ من المستقبلات هناك.
أي يبدو أنّ مستقبلات الأفيونات ترتبط بالتّعاطف مع ألم الآخر، وكذلك بالعمل الفعليّ لمساعدته على حساب المصلحة الذّاتيّة، غير أنّ أنماط نشاط هذه المستقبلات قد تختلف جذريًّا – بل وحتّى بصورة متناقضة – باختلاف مناطق الدماغ.
كذلك وُجد أنّه كلّما زاد الألم الّذي تتعرّض له المرأة الممثّلة، أي كلّما كانت الصّدمة الكهربائيّة أشدّ، تبرّعت المشاركات بمبلغ أكبر لتقليل شدّة الصّدمة الكهربائيّة في الجولة التّالية. خلال مشاهدة معاناة المرأة الممثّلة، نشطت في أدمغة النّساء المشاركات مناطق عديدة مرتبطة بالمشاعر، وكذلك مناطق دماغيّة مثل الجزيرة (Insula) والتّلفيف الحزاميّ الأماميّ، وهي مناطق ترتبط بالتّعاطف. هذه النّتائج تتسقُ مع أبحاث عديدة أخرى، درست استجابات الدّماغ لدى أشخاص يشاهدون آخرين يتألّمون.
يُظهر هذا البحث، ولأوّل مرّة، أنّ مستقبلات الأفيونات التّابعة إلى جهاز المكافأة في الدّماغ، تؤثّر على كلٍّ من السلوك ونشاط الدّماغ، عندما يقوم النّاس بالعطاء دون انتظار شيء في المقابل. إنّ فهم هذا الآليّة يوضح أنّ السلوك الإيثاري ومساعدة الغير ليسا مجرّد سلوكيّات أخلاقيّة تبنّاها الإنسان، بل إنّهما يرتكزان على آليّات دماغيّة وبيولوجيّة متأصّلة بنا منذ الولادة. لذا، ورغم المعاناة التي يُلحقها البشر ببعضهم البعض في كثير من الأحيان، يبدو أنّ أساس العطاء للآخرين دون مقابل وفعل الخير، متأصّلان فينا أيضًا.