في أحد أيّام الخريف الدّافئة من شهر تشرين الثّاني (نوفمبر)، تسلّحتُ بالفضول وبصديق يدرس العلوم، ليمنعني من الانزلاق إلى “جحر الأرانب”، وانطلقنا إلى وجهتنا “مؤتمر الأرض المسطّحة”. في مكتب الاستقبال بالخارج، حصلنا على هديّة صغيرة: قرص مسطّح مرسوم عليه خريطة القارّات، ومغطّىً بقبّة شفّافة.

أُرفِق للهديّة مصباح دائريّ صغير بدون زرّ إطفاء، والّذي يمثّل الشّمس على ما يبدو. في غياب تعليمات التّركيب، اخترت تثبيت “الشّمس” بمشبكٍ ورقيّ. عندما وصلت إلى المنزل، أهديتُ النّموذج لصديقٍ مولَعٍ بنظريّات المؤامرات. عندما زرته مؤخّرًا، كانت الشّمس لا تزال مضيئة فوق القبّة الشّفّافة.

وكما جرت العادة في العديد من المؤتمرات العلميّة، زُيِّن مدخل القاعة بملصقات لافتةٍ للنّظر، تضمّنت رسومًا بيانيّة، صورًا وشروحات بلغةٍ علميّة. كما عرضت محطّة للمقتنيات التّرويجيّة للمشاركين مجموعة متنوّعة من القبّعات، الكتب، الملصقات، الدّبابيس وسلعًا تذكاريّة متنوّعة تحمل طابع المؤتمر. كِدتُ أن أشتري لنفسي تذكارًا، لكنّني تراجعتُ خشيةَ أن يُسيء البعض فهم دبابيس “الأرض المسطّحة” المثبّتة على حقيبتي.

ولدهشتنا، امتلأت القاعة الّتي تتّسع لـ 250 مقعدًا، لدرجة أنّنا اضطررنا للاستماع إلى المحاضرة الأولى واقفين؛ بينما كان المنظّمون يُحضِرون المزيد من الكراسي للمتأخّرين أمثالنا. وصلنا خلال كلام أحد منظّمي المؤتمر، تمامًا في اللّحظة الّتي كان يشرح فيها أنّه لا يوجد سبب للخوف من إيران. ووفقًا له، فإنّ ما نعرفه عن بُنية الذّرّة هو محض كذب- فالذّرّة ليس لها نواة، وبالتّالي لا يمكن وجود قنبلة نوويّة. لا شك أنّ سكّان هيروشيما وناغازاكي سيسرّهم سماع هذا الاكتشاف.

اكتشفنا لاحقًا أنّ “مجتمع المسطّحين” لا يكتفي بإنكار نموذج مركزيّة الشّمس، أي الحقيقة الّتي لا جدال فيها وهي أنّ الكواكب تدور حول الشّمس؛ بل إنّ العديد من أعضائه يتبنّون بحماسةٍ مجموعة كاملة من نظريّات المؤامرة. وكلّما زاد المتحدّث من ازدرائه للمؤسّسة العلميّة، سواء في مضمون كلماته أو في لهجة خطابه، زادت حماسة الجمهور. ويبدو أنّ المؤتمر إلى جانب الاعتقاد بأنّ الأرض مسطّحة، أنكر مصداقيّة أيّ مؤسّسة وسلطة- مهما كانت، وعلى وجه الخصوص المؤسّسات العلميّة والسّياسيّة، مؤكّدين أنهم يسعون وراء “الحقائق البديلة”.


لا يكتفي مجتمع المسطّحين بإنكار النّموذج  الشّمسيّ المركزيّ، بل إنّ العديد من أعضائه يتبنّون مجموعة كاملة من نظريّات المؤامرة. خريطة للأرض المسطّحة من عام 1893 | ويكيميديا، Library of Congress

 ساورتني مشاعر غريبة وأنا أشاهد الجمهور يُصغي بصمت إلى المحاضر الّذي يشرح أنّ السّماء مصنوعة من  الهُلام (مادّة الجيلي). ازداد هذا الإحساس غرابةً مع المحاضر التّالي، الّذي يحمل درجة ماجستير في علم الأحياء من معهد وايزمان للعلوم، وراح يشرح أنّ إسحاق نيوتن كان مخطئًا، وأنّ قوّة الجاذبيّة غير موجودة. وبحسب زعمه، فإنّنا لا نزال ندفع حتّى اليوم ثمن الخطأ الّذي ارتكبه نيوتن.

كان تفسيره يبدو منطقيًّا تقريبًا، طالما تجاهلنا كلّ المعرفة العلميّة المتراكمة إلى الآن. وفقًا له، معظم الأشياء تسقط بالفعل نحو الأرض، لكن هناك أشياء ترتفع أيضًا– مثل بالونات الهيليوم. ومن هنا استنتج أنّ الأمر لا يتعلّق بالجاذبيّة؛ وإنما بنظام قائمٍ على الكثافة، حيث تسقط الأجسام لأنّها أكثر كثافة من الهواء، فتغوص فيه.

للمفارقة، نَسَب المحاضر الّذي سبقه سقوط الأجسام إلى وجود جذبٍ كهربائيّ بين الأرض المسطّحة، الّتي تحمل شحنة سالبة، وبين باقي الأجسام، الّتي تحمل شحنة موجبة. من المشجّع أن نرى أنّه حتّى في مجتمع المسطّحين، هناك خلافات أكاديميّة.

من خلال الأحاديث الّتي عُقدت لاحقًا خلال اليوم، تحدّث المشاركون حول اكتشافهم  “النّور” وفهمهم أنّ الأرض مسطّحة. تكرّرت رواية واحدة في أقوالهم مِرارًا: إذ قال معظمهم إنّه خلال فترات الإغلاق الّتي فُرِضت بسبب جائحة كورونا، بدأت تساورهم الشّكوك تجاه المؤسّسة العلميّة. وعندما بدأوا في البحث عن إجابات على الإنترنت، انتهى بهم الأمر في مواقع تتحدّث عن نظريّة الأرض المسطّحة. برز من خلال حديثهم نمط واضح، حيث أشاروا إلى كيفيّة ترابط المعتقدات المؤامراتيّة المختلفة ببعضها البعض– ربّما بسبب غياب الثّقة بالمؤسّسات الرّسميّة، وهي سمةٌ مشتركة بين جميع هذه المعتقداتم جميعًا، وربما بسبب الرّوابط الّتي تصنعها خوارزميّات البحث في جوجل ويوتيوب. خلال الحديث، سمعنا وبجديّة تامّة أنّ الماسونيّين يسيطرون على العالم من وراء الكواليس، وأنّ وكالات الأمن والاستخبارات الأمريكيّة نفسها هي الّتي تقف وراء هجمات 11 سبتمبر.


سمعنا أنّ الماسونيّين الأحرار يسيطرون على العالم من وراء الكواليس، وأنّ وكالات الأمن والتّجسّس الأمريكيّة هي الّتي تقف وراء هجمات 11 سبتمبر. العين داخل الهرم على ورقة الدّولار، مصدر للعديد من نظريّات المؤامرة | Shutterstock, ivosar

نظريّات المؤامرة ومبدأ عدم الدّحض

خلق الإنترنت وثورة المعلومات واقعًا مليئًا بالكمّ الهائل من المعلومات المُتاحة في متناول الجميع بضغطة زرٍّ. وللأمر حسناته وسلبيّاته، إذ إنّ هذا القدر من الإتاحة وسهولة الوصول إلى المعلومات قد انتقص من سلطة  المؤسّسات الاجتماعيّة والسّياسيّة ومن مكانتها، بعدما كانت تحتكرها في الماضي، وتتحكّم في ما يُكشف منها للنّاس وما يُحجب بناءً على استعدادها للإفصاح عنه..

لديمقراطيّة المعرفة ولتوفّرها الواسع وإتاحتها ثمن لا يُستهان به.. ففي الماضي، كانت المعلومات تصل إلينا من خلال وسائل الإعلام التّقليديّة، مثل الصّحافة المكتوبة، الّتي كان بإمكاننا غالبًا الوثوق بأنّها تتحرّى صحّة المعلومات قبل نشرها. أمّا اليوم، فقد اختلف الوضع. إذ توفِّر وسائل التّواصل الاجتماعيّ تدفّقًا متواصلًا من المعلومات الخامّ والمحتوى المموّل، كما أصبح من السّهل على أيّ فردٍ إنشاء مواقع إلكترونيّة ونشر أيّ محتوى يرغب فيه دون حواجز تحريريّة أو رقابيّة. بل إنّ المعلومات الّتي تنشرها وسائل الإعلام التّقليديّة نفسها باتت تتنازل عن دقّة التحقّق الكافي من الحقائق، بسبب ضغط السّبق الصّحفيّ.

في هذا الوضع، يصبح من الصّعب جدًّا تقصّي مصادر المعلومات الّتي تصل إلينا والتّحقّق من صحّتها. رغم اتّهام وسائل الإعلام في الماضي بخدمة مصالح السّياسيّين وأصحاب رؤوس الأموال، لكنّ خريطة المصالح اليوم أصبحت أكثر تعقيدًا. نحن، كمستهلكي المعلومات، مطالبون بفرز الحقيقة من بين هذا السّيْل الجارف من المعلومات، وهي مهمّة ليست سهلة. يُعتبَر هذا الوضع بيئة مثاليّة لنشر نظريّات المؤامرة. إذ ينشر مروّجو هذه النّظريّات أفكارهم عبر مواقع الإنترنت، المدوّنات، مقاطع الفيديو، وبالطّبع عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ– تتيح تلك المنصّات لمستخدميها التّواصل بسهولة مع أشخاص آخرين يعتنقون نفس الأفكار ويشاطرونهم المعتقدات ذاتها.


توفّر الشّبكات الاجتماعيّة تدفّقًا متواصلًا من المعلومات والمحتوى المموّل. شخص يحمل هاتفًا فيه تطبيقات التّواصل الاجتماعيّ | Shutterstock, JRdes

بماذا يؤمن أصحاب نظريّة المؤامرة؟ نظريّة المؤامرة هي تفسيرٌ لبعض الظّواهر من خلال افتراض وجود مؤامرة سِرّيّة تُحيكها قوًى خبيثة نافذة، تسعى للإضرار بناوتدير الأحداث من وراء الكواليس في الخفاء. وفقًا لهذه النّظريّات، فإنّ هذه الجهات -إلى جانب المؤسّسة الحاكمة بأكملها- تخفّي عنّا الحقائق الحقيقيّة وتعرِض علينا صورة مزيّفة ومضلّلة للواقع طوال الوقت. كثيرًا ما تُنسب هذه المؤامرات إلى منظّمات سِرّيّة، مثل: الماسونيّة، فرسان الهيكل، أو جماعة المتنوّرين (الإيلوميناتي)،  ويُعتقد أحيانًا أنّ لديها قدرات خارقة للطبيعة– كالكائنات الزّاحفة المتخفية في هيئة بشر.

تتعارض العديد من هذه النّظريّات مع العلم والمعرفة السّائدة. من أبرز الأمثلة على ذلك: معارضو اللّقاحات، منكرو تغيّر المناخ، ومؤيّدو فكرة “الأرض المسطّحة”. إضافة إلى ذلك، يبدو أنّه لا يوجد مبدأ علميّ إلّا واستخدمه أصحاب نظريّات المؤامرة كدليلٍ على “الكذبة الكبرى” الّتي تحيط بنا. وفقًا لمعتقداتهم، لم يحدث هبوطٌ للإنسان على القمر أبدًا، وآثار الطّاثرات في السّماء ليست سوى بخّاخات كيميائيّة سامّة تهدف إلى تقليل عدد السّكان، ومنظومة “القبّة الحديديّة” لاعتراض الصّواريخ لم تصب أيّ جسمٍ طائرٍ على الإطلاق.

يكمن الفرق الرّئيسيّ بين نظريّات المؤامرة والنّظريّات العلميّة في مبدأ “القابليّة للدّحض”. في خمسينيّات القرن العشرين، أوضح فيلسوف العلوم كارل بوبر أنّ تقدّم العلم يعتمد على دحض الفرضيّات استنادًا إلى الأدلّة والتّجارب والبيانات المتناقضة. من أجل إثبات صحّة نظريّة ما، يجب البحث عن أدلة قد تفنّدها. وطالما لم يُعثر على مثل هذه الأدلّة، تظلّ النّظريّة سارية. لذلك، بحسب بوبر، لا تُعدّ النّظريّة علميّة إلّا إذا كان من الممكن على الأقلّ من النّاحية النّظريّة- دحضها. على النّقيض من ذلك، لا يسعى مؤمنو نظريّات المؤامرة إلى اختبار صحّة نظريّاتهم من خلال محاولات دحضها؛ بل يحاولون العثور على أدلّة تدعمها، وغالبًا ما يتجاهلون أو

يقلّلون من أهمّيّة الأدلّة المتعارضة. في كثير من الحالات، لا توجد أيّ تجربة أو ملاحظة يمكن أن تقنع أصحاب هذه النّظريّات بالتّخلّي عنها. 


في كثير من الأحيان، تُربَط المؤامرات بمنظّمات سِرّيّة، مثل البنّائين الأحرار (الماسونيّة)، فرسان الهيكل، أو المتنوّرين. رسم لطقس تنصيب لجماعة البنّائين الأحرار | ويكيميديا

مصدر نظريّات المؤامرة

المصدر الأساسيّ لنظريّات المؤامرة هو الأحداث العالميّة الكبرى. ففي الأحداث الّتي يسودها الغموض وعدم اليقين، مثل: الأوبئة، الحروب، الأزمات الكبرى والكوارث الطّبيعيّة، يزداد البحث عن تفسيرات بديلة، خاصّة عندما تواجه السّلطات صعوبة في تقديم إجابات سريعة ومتّسقة. على سبيل المثال، رافقت جائحة كورونا زيادة مؤقّتة ولكن ملحوظة في الانجراف نحو تفسيرات قائمة على نظريّات المؤامرة. لهذه الزّيادة بُعدان رئيسيّان. أوّلًا، ردّ فعل فوريّ على الجائحة نفسها، حيث انتشرت نظريّات متنوّعة، وغالبًا غريبة، حول أصل الفيروس وكيفيّة انتشاره، إلى جانب تصاعدٍ واضحٍ لحركة مناهضي اللّقاحات. ثانيًا، خلال فترات الإغلاق، وجد كثير من النّاس أنفسهم عالقين في منازلهم، فكانوا يقضون وقتًا أطول في تصفّح الإنترنت، الّذي بدوره زوّدهم بالمزيد والمزيد من هذا المحتوى ذي الطّابع المؤامرتيّ.

تكمن إحدى المشكلات في حقيقة أنّ خوارزميّات البحث في جوجل ويوتيوب مصمّمة بحيث تُكيّف المعلومات الّتي تعرضها للمستخدمين بناءً على ما تعرفه من عمليّات بحثهم السّابقة. أي  إذا بحثتُ عن معلومات حول موضوع معيّن، فمن المرجح أن تقودني عمليّات البحث الّلاحقة إلى معلومات يفترِض الموقع أنّها ستثير اهتمامي أيضًا. وهكذا، قد يجد من يبحث عن مقاطع فيديو تتعلّق بنظريّات بديلة لمصدر فيروس كورونا، أنّ صفحته الرّئيسيّة على يوتيوب تمتلئ بمقاطع فيديو تدّعي، على سبيل المثال، إثبات أنّ الأرض مسطّحة. أظهر الباحث الإسرائيليّ دافيد ليزر، المتخّصص في دراسة نظريّات المؤامرة، أنّ البحث عن فكرة معيّنة، مثل “الفوائد المحتملة لشرب البول”، سيؤدّي إلى نتائج تدعم هذه الفكرة، إلى جانب اقتراحات لموضوعات ذات صلة.

عامل مهمّ آخر هو وسائل التّواصل الاجتماعيّ، الّتي تُتيح نشرًا سريعًا وواسعَ النِّطاق للأفكار والمعلومات. وبفضل  الكمّ الهائل من المعلومات الّتي تجمعها هذه الشّبكاتحول المستخدمين ورغبة مشغّليها في إبقاء المستخدمين متّصلين لأطول وقتٍ ممكن، تُصمّم الخوارزميّات لتشجّعهم على التّواصل مع أشخاص ذوي ميول متشابهة. هكذا تتكوّن  “غرف الصّدى“- وهي بيئة اجتماعيّة لا يواجه فيها المستخدم سوى المعتقدات والآراء المشابهة لأفكاره، دون أن تتحدّاه أفكار أخرى. والنّتيجة- من السّهل جدًّا أن تقتنع بأنّ الجميع يفكرون مثلك، وبالتّالي تعزّز مواقفك.


تربط الشّبكات الاجتماعيّة بين الأشخاص ذوي الميول المتشابهة، وهذه هي الطّريقة الّتي يتمّ بها إنشاء “خلايا الصّدى”. رسم توضيحيّ لتكوين خلايا الصّدى في الشّبكة

تعزيز إضافيّ آخرلنظريّات المؤامرة يرتبط بالثّقافة المحيطة بنا. تعرض العديد من الأفلام والكتب والمسلسلات التّليفزيونيّة حبكات تتمحور حول المؤامرات المظلمة والمخطّطات الخفيّة. التّعرّضالمتكرّر لمثل هذه الأنماط السّرديّة يغذّي الخيال ويسهم في تطبيع فكرة وجود قوىً شريرة حقيقيّة تتحكّم بحياتنا في الخفاء. إضافة إلى ذلك، لا يمكن تجاهل التّأثير المزعزع للتّطوّر العلميّ والتّكنولوجيّ المتسارع في عصرنا. كلّما تقدّم العلم والتّكنولوجيا، أصبح من الصّعب على الجمهور العامّ فهمهما. يعزّز هذا الفارق في الفهم إمكانيّة خلق نظريّات بديلة تحاول تفسير ما يبدو  غير مفهوم وغامضًا. مثال على ذلك، شبكة الاتّصالات الخلويّة من الجيل الخامس (G5)، والّتي ارتبط اسمها بمجموعة من نظريّات المؤامرة الوهميّة خلال جائحة الكورونا، بدءً من الادّعاء بأنّ G5 هو السّبب الحقيقيّ للوباء، وانتهاء بالزّعم أنّ اللّقاحات ضدّ الفيروس صُمّمت لغرض زرع الرّقائق الإلكترونيّة في البشر من أجلتقوية شبكات الاتّصال الخلويّة.

وأخيرًا، لا يمكن إغفال الموجة الشّعبويّة الّتي اجتاحت السّياسة العالميّة لفترة طويلة. نشر قادة وسياسيّون في العديد من البلدان نظريّات المؤامرة وقاموا بتضخيمها وترديدها بهدف تحقيق مكاسب سياسيّة، إيذاء المعارضين السّياسيّين وتقديم عدوّ مشترك يمكن لمؤيّديهم أن يتّحِدوا في مواجهته. وعندما يتبنّى مثل هؤلاء القادة نظريّات المؤامرة المناهضة للعلم، مثل تغّير المناخ وإنكار الانحباس الحراريّ العالميّ، فإنّهم يتسبّبون بأضرار هائلة ويقوّضون الجهود الرّامية إلى منع أزمة بيئيّة لا رجعة فيها.


ارتبط اسم شبكة الجيل الخامس الخلويّة G5 خلال وباء كورونا بمجموعة من نظريّات المؤامرة الوهميّة. هاتف مُزوّد بتقنيّة 5G بجوار رسمٍ لفيروس كورونا | Shutterstock, Ink Drop

من يؤمن بنظريّات المؤامرة؟

لقد رأينا بأيّ ظروف تظهر وتننشر نظريّات المؤامرة، وتثبت فقط في حال وجود أشخاص يؤمنون بها. ما الّذي يُميِّز أتباع هذه النّظريّات؟

إنّ حقيقة ميْل نظريّات المؤامرة إلى الظّهور خاصّة في أوقات الأزمات تشير إلى سِمة مركزيّة لأتباعها: يبحث هؤلاء الأشخاص عن النّظام والمعنى في واقعٍ فوضويّ ومُهدَّد، ويتعزّز هذا الاتّجاه في مواجهة التّهديدات الكبيرة والمخيفة، مثل: الأوبئة العالميّة أو الحروب. تُوفِّر نظريّات المؤامرة لمن يؤمن بها شعورًا بالسّيطرة على واقعٍ مُحيِّر، من خلال سرديّة بسيطة مشحونة بعلامات التّعجُّب الّتي توضِّح بجلاء من هو العدوّ وتضع الفرد في موقف المحارب لأجل العدالة.

 للأزمات الكبرى نتيجة أخرى: فهي تُقوِّض ثقة الجمهور في المؤسّسات الاجتماعيّة والسّياسيّة. ونتيجة لذلك، هناك من يرفض التّفسيرات الرّسميّة للوضع ويبحث عن تفسيرات بديلة، ويفضِّل عدم اتّباع  الرّواية الرّسميّة المؤسساتيّة. وقد ينبع انعدام الثّقة هذا من الشّكّ المتأصِّل في أصحاب السّلطة، أو من تصوُّرِ السّلطة باعتبارها مصدر الشَّرِّ، أو من الرّغبة في تحدي النُّخب القائمة.

 ومن السِّمات الأخرى الّتي تُميِّز أتباع هذه النّظريات هي الشّعور بالعجز أو العزلة الاجتماعيّة أو انخفاض الثّقة بالنّفس. تسمح نظريّات المؤامرة للنّاس برؤية أنفسهم كجزءٍ من مجموعة “تعرف الحقيقة”، ممّا يوفِّر لهم الشّعور بالمعنى والانتماء. تُسهِّل الشّبكات الاجتماعيّة على المؤمنين بنظريّات المؤامرة بناء مجتمعٍ لأنفسهم، يلبّي احتياجاتهم ورغبتهم في الشّعور بأنّهم جزءٌ من شيءٍ كبير. في بعض الأحيان، يكون هؤلاء من الأشخاصالّذين يشعرون بأنّهم على هامش المجتمع الّذي يعيشون فيه، فيمنحهم المجتمع الجديد ما افتقدوه من شعورٍ بالانتماء والدّعم.

من النّاحية الإدراكيّة، يميل معظم النّاس إلى البحث عن المعلومات الّتي تعزِّز معتقداتهم الحاليّة، ورفض المعلومات الّتي تتعارض معها- وهي ظاهرة تُعرَف أيضًا باسم الانحياز التّأكيديّ. إنّ “غرف الصّدى” الّتي تنشأ على الشّبكات الاجتماعيّة تشجِّع هذا الاتّجاه وتخلق انطباعًازائفًا بوجودلدعم واسعٍ لمواقف غير طبيعيّة محدّدة. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما تؤدّي الأحداث المركزيّة في جميع أنحاء العالم إلى الانحياز التّناسبيّ (Proportionality Bias) لدى الأشخاص: كلّما بدا الحدث أكثر أهمّيّة، زاد عدد الأشخاص الّذين يميلون إلى الاعتقاد بأنّه لا بدّ أنّ سببًا كبيرًا وراءه- يجب أن تكون الكارثة الكبرى نتيجة لمؤامرة كبرى.

تشير الدّراسات إلى أنّ الأشخاص والمجموعات الّذين يميلون إلى تبنّي نظريّات المؤامرات غالبًا ما ينظرون إلى أنفسهم على أنّهم يشغلون موقفًا أ ضعف أو أقلّ ممّا يستحقونة في المجتمع. ومن الخصائص الأخرى، تفضيل السّببيّة على العشوائيّة، أي التّصوّر بأنّ الأشياء السّيئة الّتي تحدث ليست اعتباطيّة وعشوائيّة؛ وإنّما خلفها يدٌ متعمّدة من مصدرٍ خارجيٍّ تتمنّى لي الأذى. إنّ الشّعور بفقدان السّيطرة يمكن أن يدفع الشّخص إلى التّشبّث بالإيمان بالمؤامرات في محاولة لاستعادة الشّعور بالسّيطرة. وهذا العامل يبرز بوضوح بشكلٍ خاصٍّ في نظريّات مثل “الأرض المسطّحة”، الّتي تضع الإنسان في المركز.


إنّ الشّعور بفقدان السّيطرة يمكن أن يدفع الإنسان إلى التّشبّث بالإيمان بالمؤامرات في محاولة لاستعادة الشّعور بالسّيطرة. شخص يقف أمام لوحٍ ويربط بين أحداث مختلفة | Shutterstock, Dmytro Sheremeta

ومن السِّمات الأخرى الّتي حدّدها البحث، الاستعداد لتصديق الهراء (Bullshit Receptivity)، أي القدرة أو الرّغبة في إيجاد معنًى في عبارات جميلة ظاهريًّا لكنّها فارغة من المضمون. فإذا بدا لك منطقيًّا، على سبيل المثال، أنّ “الخيال يقع ضمن أحداث الزّمكان الأُسِّيّة، ونحن نعيش في ذروة ازدهار وعيٍ ذاتيٍّ لوجودٍ سيربطنا بالاتّصال نفسه”، فربما من الأفضل أن تُفعّل كاشف الهراء لديك في أسرع وقت. واليوم، توجد أدوات بحثيّة تقيس حتّى هذه السِّمة.

يشير جرّاح الأعصاب الأمريكيّ ستيفن نوفيلا (Novella) إلى عددٍ من الآليّات الّتي يستخدمها المؤمنون بنظريّات المؤامرة للحفاظ على معتقداتهم، حتّى في مواجهة حقائق تدحضها. الآليّة الكلاسيكيّة هي ما يُعرَف بـ”فقرة التّغلّب” في نظريّات المؤامرة: صادفتَ حقيقةً تناقض النّظريّة؟ لا شكّ أنّ القوى الخفيّة الّتي تقف وراء الكواليس قد زرعتها عمدًا لإرباكك. وبهذه الطّريقة يمكنهم تجاوز أيّ حقيقة.

آليّة أخرى تُعرف بـ“قطف الكرز”، أي انتقاء تفاصيل صغيرة تتماشى مع الاعتقاد التّآمريّ من بين مجموعة أكبر بكثير من الأدلّة الّتي تدعم، في معظمها، الاتّجاه المعاكس. فعلى سبيل المثال، قد يُستشهد بأيّام شديدة البرودة باعتبارها “دليلًا” على أنّ العالم لا يمرّ بمرحلة احترار. أداة شائعة أخرى هي تحويل عبء الإثبات، أي افتراض أنّ نظريّتك صحيحة ما لم يُثبَت العكس، وإلقاء عبء الإثبات على الطّرف الآخر. 

سيجد الطّرف الآخر نفسه في مهمّة بالغة الصّعوبة، لأنّ المؤمنين بنظريّات المؤامرة يطالبون من يحاول دحض نظريّتهم بتحمّل عبءٍ هائلٍ من الأدلّة، حتّى لو كان يدافع عن مفهومٍ راسخٍ ومُثبَتٍ مثل أنّ “الأرض كرويّة وتدور حول الشّمس”.

آليّة مفيدة أخرى هي “البحث عن الحالات الشاذّة”: فكلّ حقيقة يصعُب تفسيرها قليلًا، أو كلّ ما لا ينسجم تمامًا مع التّفسير العلميّ أو الرّسميّ، يُستَغل فورًا لتعزيز نظريّة المؤامرة. ولا جدوى غالبًا من القول للمؤمنين بهذه النّظريّات إنّ بعض الظّواهر ببساطة لا تملك تفسيرًا مباشرًا أو كاملًا.. فمثلًا، بعد كارثة البرجيْن التّوأمين (11 سبتمبر)، لم يُعثَر في الأنقاض على حطام الطّائرتيْن اللّتيْن اصطدمتا بهما. ومن هذه التّفاصيل نشأت العديد من نظريّات المؤامرة، الّتي تشترك في الإيمان بوجودِ “عملٍ داخليّ”،لأنّه لا توجد أدلّة على وجود طائرات. أي، لا توجد أدلّة، باستثناء عشرات الآلاف من شهود العيان والعديد من التّوثيقات المصوّرة للحظة الاصطدام– لكنّها، بطبيعة الحال، لا تُعَدّ أدلّة بالنسبة لهم.


إحدى آليّات المؤمنين بالمؤامرة هي “قطف الكرز”، أي جمع التّفاصيل الصّغيرة الّتي تتوافق مع اعتقادهم، من مجموعة أكبرَ بكثيرٍ من الأدلّة الّتي تدعم في الغالب الاتّجاه المعاكس. مثال للتّركيز على جزء صغير من الرّسم البيانيّ، والّذي يُظهِر اتّجاهًا مختلفًا عن الاتّجاه الّذي يظهر من الرّسم البيانيّ بأكمله | ويكيميديا، Physikinger

هل هو ميؤوس منه، دكتور؟

مؤخّرًا، نُشرت دراسة في مجلة Science كشفت أنّه يمكن تغيير مواقف النّاس وتصوّراتهم إذا قُدِّمت لهم أدلّة مُخصّصة اختارتها لهم خوارزميّات الذّكاء الاصطناعيّ. لسنوات طويلة، كان الاعتقاد السّائد أنّ مقاومة نظريّات المؤامرة للأدلّة المخالِفة تعكس تلبيتها لحاجةٍ نفسيّةٍ عميقة، تُحصِّن المؤمنين بها ضدّ الحقائق والتّفكير المنطقيّ.لكن، يُظهر البحث الجديد أنّ الحجج الموجّهة والمُستنَدة إلى كمّيّات هائلة من المعلومات قادرة على التّأثير بشكلٍ فعّالٍ على المؤمنين بتلك النّظريّات. اللّافت، أنّ تأثير الإقناع قد استمرّ لعدّة أشهرٍ بعد ذلك. ومع ذلك، كلّما كانت النّظريّة أكثر مركزيّة في نظرة الأشخاص للعالم –على الأقلّ بحسب ما أفادوا به بأنفسهم–؛ كان التّدخّل أقلّ فعاليّة.

لذلك، اقترح الباحثون الاستفادة من مهارات الإقناع الّتي يمتلكها الذّكاء الاصطناعيّ، ودمجه في محرّكات البحث، بحيث يتمكّن من التّدخّل وتقديم معلومات دقيقة وموثوقة للمستخدمين الّذين يبحثون عن مفاهيم مرتبطة بهذه النّظريّات أو غيرها من نظريات المؤامرة. في المقابل، من المهمّ الحذر من إساءة استخدام قوّة الإقناع الكبيرة الّتي يمتلكها الذّكاء الاصطناعيّ، إذ يمكنه بنفس القدر أن يقنع من هم عرضة لتصديق نظريّات المؤامرة وتبنّيها.

هل ترغبون في التّحدّث مع الرّوبوت حول قناعاتكم؟ تفضّلوا.

وفي الختام

من أبرز ما لوحِظ في مؤتمر “الأرض المسطّحة” هو إنكار المشاركين لحقائق معروفة، والشّعور بالوحدة الذي ولّد فيهم الرّغبة في مواجهة الإجماع الواسع. تتيح لهم هذه الجماعة الشّعور بأنّهم جزء من كيانٍ ما، وأنّهم شركاء في أمر كبير، كما تتيح لهم أن يلتقوا بأشخاص يشاركونهم طريقة التّفكير نفسها، ويجدّدوا مشروعيّة معتقداتهم الخارجة عن المألوف.

سخرت  فنّانة ستاند أب كانت تؤدّي عرضًا في المؤتمر قائلةً إنّ المشاركين لم يمانعوا في عدم حصولهم على “جواز السّفر الأخضر” خلال فترة كورونا، وبالتّالي مُنِعوا من التّواجد في الأماكن العامّة، لأنّهم على أيّ حال من أنصار نظريّة الأرض المسطّحة، الّذين نبذهم المجتمع بسبب آرائهم. إذا تجاوزنا المزاح، تبقى الحقيقة أنّ الإنسان كائن اجتماعيّ بطبعه، وأنّ الحاجة إلى الانتماء إلى مجتمع ما متجذّرة فينا، بغضّ النّظر عن آرائنا حول طبيعة قبّة السّماء.

أثناء التّجوال في وسائل التّواصل الاجتماعيّ خلال الأيّام الأخيرة، في ظِلِّ صفقة تبادل الرّهائن والحرب في قطاع غزّة، ظهرت مجموعة واسعة من نظريّات المؤامرة بدرجات متفاوتة من عدم المعقوليّة— وهو ما يدلّ، قبل كلّ شيء، على أنّ نظريّات المؤامرة باقية ولن تختفي قريبًا. وربما لم يعد الاكتفاء بالوقوف على الهامش والّتندّر أمرًا كافيًا، فقد حان الوقت لصياغة مبادئ عمل مستنِدة إلى الأبحاث، لمواجهة انتشار هذه النّظريّات وما يرافقها من تآكل الثّقة بالعلم القائم على الأدلّة.