تدور أحداث الفيلم الشّهير “جوراسيك بارك”؛ Jurassic Park، المقتبس عن رواية الخيال العلميّ للكاتب “مايكل كرايتون” (Michael Crichton)، حول مجموعة من العلماء الّذين تمكّنوا من استنساخ كائنات منقرضة، بما في ذلك الدّيناصورات. كما هو متوقّع، تتطوّر أحداث الفيلم وتزداد تعقيدًا، فيقول عالم الرّياضيّات “إيان مالكولم”، الّذي يلعب دوره الممثّل “جيف جولد بلوم” (Jeff Goldblum)، جملة شهيرة تُمثِّل صوت العقلانيّة والتّشكّك، حيث أُقتبست مرّات عديدة منذ ذلك الحين: “كان العلماء منشغلين للغاية بمعرفة ما يمكنهم فعله، لدرجة أنّهم لم يفكروا ولو للحظة فيما إذا كان ينبغي عليهم القيام بذلك في المقام الأوّل”.

نظرًا لكون “كرايتون” كاتبًا وليس باحثًا، غالبًا ما كان يَصِف في كتبه أحداثًا يخرج فيها العلم عن السّيطرة. في الواقع، فإنّ ذلك لا يُعتَبر أمرًا مستبعدًا تمامًا، إذ أنّ التّعامل مع المجهول يحمل دائمًا إمكانيّة حدوث مفاجآت غير متوقّعة. قد تُساهِم هذه المفاجآت في تعزيز معرفتنا، وربّما إنقاذ أرواح -على سبيل المثال: اكتشاف البنسلين-؛ ومع ذلك قد يكون بعضها خطيرًا، لذلك يجب علينا الاستعداد لها بأفضل ما نستطيع.

كان هذا هو الهدف بالتّحديد نُصب أعين 24 باحثًا من الولايات المتّحدة، بريطانيا، الهند، واليابان، الّذين حرصوا على التّوقّف للتّفكير قبل فوات الأوان. في تقرير عامٍّ يتألّف من نحو 190 صفحة، لَخّص الباحثون ما نعرفه اليوم عن التّطوّرات التّكنولوجيّة اللّازمة لإنتاج البكتيريا المرآتيّة. كما يناقش التّقرير التّعديلات المحتمَلة الّتي قد يُدخِلها الباحثون على البكتيريا بدوافع إيجابيّة، ويحذّر من المخاطر المفترَضة الّتي قد تنشأ إذا لم تظلّ هذه البكتيريا ضمن حدود المختبر ووصلت بشكلٍ ما إلى البيئة الطّبيعيّة. خضع التّقرير لمراجعة إضافيّة من قبل باحثين آخرين قبل نشره، ونُشرت نسخة مختصَرة منه في مجلة “ساينس” Science.

إيان مالكولم يعرض نظريّته في فيلم “جوراسيك بارك

جُزيْئات مرآتيّة- متشابهة لكن معكوسة

تمتلك بعض الجُزيْئات العضويّة مبنيَيْن فراغيّيْن مرآويّيْن، أي نسختين متطابقتين تمامًا لكن معكوستيْن، أي كأيدي البشر، حيث تكون اليد اليمنى نسخة دقيقة ولكن مقلوبة من اليد اليسرى. تُعرف هذه الجزيْئات بالجزيْئات الكيراليّة (Chiral molecules)، ويُطلق على الشّكليْن المرآويّيْن من نفس الجزيء المتصاوغات المرآتيّة أو “الإنانتومرات” (Enantiomers). تتشابه الإنانتومرات في نفس تركيبها الذّرّيّ، وترتبط ببعضها البعض في نفس البنية تمامًا، ولكن بالتّرتيب المعاكس. ورغم أنّها تمتلك خصائص كيميائيّة مشابهة -مثل: درجة الانصهار، درجة الحموضة أو القاعديّة، الذّوبان في الماء، والتّفاعل كيميائيًّا-؛ إلّا أنّ شكلها المرآويّ يمنحها تأثيرًا مختلفًا على الضّوء الّذي يمرّ من خلالها.

يُشار عادة إلى الشّكل الأيسر للجزيْئات الكيراليّة بالحرف L، والشّكل الأيمن بالحرف D. قد يختلف انتشار كلّ شكل في الأنظمة البيولوجيّة في الطّبيعة بشكلٍ كبير. على سبيل المثال، جميع الأحماض الأمينيّة المستخدَمة في بناء البروتينات هي جزيْئات من نوع L فقط، في حين أنّ السُّكّريّات من نوع D. أمّا النّوكليوتيدات -اللّبنات الأساسيّة للحمض النّوويّ DNA والحمض النّوويّ الرّيبوزيّ RNA- هي أيضًا من نوع D.

لا يزال السّبب وراء تفضيل شكل واحد على آخر في الأنظمة البيولوجيّة غير واضح تمامًا. وجدت الدّراسات أنّ بعض الأحماض الأمينيّة في النّيازك تُظهِر تفضيلًا واضحًا لشكلها الأيسر، لذا افترض البعض بأنّ النّيازك الّتي سقطت على الأرض، أدّت إلى تغيير التّوازن بين الأشكال وساهمت في تفضيل هذا الشّكل أثناء التّطوّر. في الواقع، أظهرت الأبحاث أنّ الزّيادة الطّفيفة في أحد الأشكال تكفي لإحداث تأثير الدّومينو (Domino Effect) الّذي قد يفسِّر التّفضيل الكيراليّ الّذي نراه اليوم. 

تُظهِر جُزيْئات الـ- RNA اليساريّة مقاومةً للإنزيمات الطّبيعيّة الّتي تعمل على تفكيك الـ-RNA، كما هو الحال مع جزيْئات الـ- DNA اليساريّة والإنزيمات الّتي تستهدفها. أمّا البروتينات اليمينيّة، فإنّها ليست مقاومة للإنزيمات فحسب، بل أيضًا للأجسام المضادّة الّتي تتعرّف عليها، ولتفاعلات البروتينات الطّبيعيّة معها. لذلك، تُعتبَر هذه الجزيْئات هدفًا مهمًّا للأبحاث الّتي تسعىإلى تطوير أدوية مستقرّة، أو تلك الّتي لا تُثير استجابات مناعيّة. لكن، كما سنكتشف لاحقًا، فإنّ هذه الميزة تحمل معها المخاطر أيضًا. 

بعض الجزيْئات العضويّة لها مبنيان فراغيّان، وهما صورتان معكوستان لبعضهما. اليد اليمنى تحمل جزيئًا ذا كيراليّة يمينيّة واليد اليسرى تحمل جزيئًا ذا كيراليّة يساريّة | ناسا

مخلوقات المرآتيّة 

يسعى مجال البحث في علم الأحياء التّركيبيّ (Synthetic biology) إلى خلق عناصر جديدة غير موجودة في الطّبيعة. يُستخدَم، على سبيل المثال، لإعادة برمجة البكتيريا، أو إنشاء بكتيريا جديدة تمامًا- في بعض الأحيان بشفرة وراثيّة فريدة، تتضمّن لبِناتٍ أساسيّة من البروتينات والـ-DNA الّتي لا وجود لها في الطّبيعة. وفي الوقت نفسه، تُبذَل محاولات أيضًا لإنشاء جزيْئات بيولوجيّة تُحاكي نظيراتها الطّبيعيّة بدقّة، بهدف إنتاج كائنات حيّة ذات أيْضٍ معاكس: أي تعتمد على الأحماض الأمينيّة اليمينيّة والسُّكّريّات اليساريّة. 

لا يمكن لمثل هذه الكائنات المرآتيّة أن تنشأ بشكلٍ طبيعيّ على الأرض، إذ أنّ معظم الجزيئات المرآتيّة نادرة جدًّا. مع ذلك، لو وُجدت هذه الجزيئات، لتطلّب نشوء حياة ذات كيراليّة معكوسة تغييرًا جذريًّا ومتزامنًا في جميع الأنظمة الخلويّة. بما أنّ التّطوّر الطّبيعيّ هو عمليّة بطيئة وتدريجيّة، فإنّ حدوث تغيير كهذا غير ممكن. لذلك، يبقى علم الأحياء التّركيبّي الوسيلة الوحيدة لإنشاء هذه الكائنات.

يشير مؤلّفو التّقرير إلى إحراز تقدّم في تحديد الخطوات اللّازمة لإنشاء كائنات مرآتيّة. على سبيل المثال، في دراسة حديثة نُشرت في مجلة “ساينس” (Science)، تمكّن الباحثون من إنتاج نسخة مرآتيّة يمنى من بروتين بوليميراز الحمض النّوويّ الرّيبوزيّ (Polymerase RNA)، المسؤول عن إنتاج الـ- RNA من المادّة الوراثيّة (DNA). أظهرت النّتائج أنّ هذا البروتين تمكّن لاحقًا من بناء جزيئات RNA طويلة مرآتيّة ذات وظائف مهمّة. كذلك، يبدو أنّ هذه الدّراسة مهّدت الطّريق لإنتاج بروتينات مرآتيّة باستخدام الرّيبوسومات العكسيّة- وهي “المصانع” المسؤولة عن إنتاج البروتينات داخل الخلايا.

نجحت مجموعات بحثيّة أخرى في مضاعفة (Replication) الـ-DNA الأيسر، وإنشاء الإنزيمات المسؤولة عن ربط الحمض النّوويّ العكسيّ، والّتي من بين أمور أخرى، تُعدّ ضروريّة للرّبط بين مقاطع الـ- DNA في الهندسة الوراثيّة. يقدِّر مؤلّفو التّقرير أنّه بالمعدّل الحاليّ للتّقدّم، سنكون قادرين على إنتاج البكتيريا المرآتيّة في حوالي عشر سنوات فقط.

رغم التّقدّم المحرَز، لا تزال هناك تحدّيات كثيرة يجب التّغلّب عليها. على سبيل المثال، يُعدّ الإنتاج الكيميائيّ للجزيئات المعقّدة ذات الكيراليّة المعاكسة، مثل الـ-DNA والبروتينات، مُكلِفًا للغاية في الوقت الحاليّ. كما سيحتاج الباحثون أيضًا إلى تطوير آليّات لإنتاج الرّيبوسومات المخصّصة وغيرها من الآليّات الخلويّة المعقّدة.

من المفترض أن تعمل البكتيريا المرآتيّة تمامًا مثل نظيراتها الطّبيعيّة. ومن النّاحية النّظريّة، سيكون من الممكن أيضًا تطبيق الأساليب المعروفة من مجال علم الأحياء الدّقيقة عليها لإنشاء سُلالات تنمو ببطء أو بسرعة، في درجات حرارة مختلفة وفي ظلّ ظروف نموٍّ مختلفة. وبالإضافة إلى ذلك، وكما هو الحال مع البكتيريا الطّبيعيّة، سيكون من الممكن هندسة بكتيريا مرآتيّة تنمو على وسط نموٍّ يحتوي على جزيئات غير كيراليّة. بهذه الطّريقة، سوف تقوم البكتيريا المرآتيّة بإنتاج وحدات البناء الكيراليّة بنفسها من جزيئات البناء البسيطة، دون أن يضطرّ الباحثون إلى إنتاجها بأنفسهم.

أشار الباحثون في التّقرير إلى أنّهم لا يستبعدون إمكانيّة حدوث التّطوّرات المستقبليّة الّتي قد تمكِّن البكتيريا المرآتيّة من استخدام الجزيئات الكيراليّة، مثل: بعض الأحماض الأمينيّة أو السُّكّريّات اليساريّة الموجودة في الطّبيعة، وتفكيكها أو تعديلها لاستخدامها الخاصّ. ممّا يعني أنّ البكتيريا المرآتيّة قد تتمكّن من التّكاثر خارج المختبر. 

هل سيكون من الممكن منع “تسرّب” البكتيريا المرآتيّة إلى الطّبيعة بشكلٍ كامل؟ من غير المرجّح، إذ قد تقع الحوادث حتّى في أكثر المختبَرات أمانًا ومحافظةً على السّلامة، والّتي تحتوي على مسبّبات الأمراض الأكثر خطورة. لتجنّب ذلك، قد يكون الحلّ الأنسب هو إنشاء بكتيريا تعتمد على موارد اصطناعيّة لا تستطيع إنتاجها بنفسها، وبالتّالي لن تتمكّن من البقاء خارج المختبر. مع ذلك، تتميّز الكائنات الحيّة، وخاصّة البكتيريا، بقدرة هائلة على التّكيّف، بحيث قد تتمكّن من استخدام جزيئات عضويّة أخرى، حتّى لو كان ذلك بكفاءة أقلّ- والبقاء على قيد الحياة. وأخيرا، لا سبيل لمنع إساءة استخدام التّكنولوجيا لأغراض الحرب أو الإرهاب.

نجح باحثون في إنتاج نسخة معكوسة يمينيّة من الإنزيم المسؤول عن إنتاج الـ- RNA من المادّة الوراثيّة. بوليميراز الحمض النّوويّ الرّيبوزيّ مع لولبي الـ RNA والـ-DNA | المصدر: Litvinanna, Wikimedia

خطر على صحّة الإنسان

يتمتّع جهازنا المناعيّ بقدرة تعلّم ممتازة، ممّا يجعله قادرًا على التّعامل بسهولة مع التّهديدات المعروفة وتدميرها بسرعة. لكن، عند التّعرّض لمسبّبات الأمراض الجديدة وغير المألوفة، تحتاج أنظمة الدّفاع في أجسامنا إلى الوقت للتّعرّف عليها وتحديدها، وتفعيل التّدابير اللّازمة لتدميرها.

في حالة التّعرّض للبكتيريا المسبّبة للأمراض، من المرجّح أن يكون الوضع أكثر تعقيدًا. تتكيّف جميع أنظمة الدّفاع في أجسامنا مع أشكال الحياة الّتي لها نفس الكيراليّة: على مدى سنوات عديدة من التّطوّر، قمنا بتكييف القدرة على التّعرّف على السُّكّريّات في شكلها الكيراليّ الأيمن والبروتينات في شكلها الكيراليّ الأيسر على سطح البكتيريا أو الفيروسات. وبما أنّ الأشكال المعكوسة لها غير موجودة في الطّبيعة، فمن المرجّح أنّ جهاز المناعة لدينا لن يتعرّف على البكتيريا المرآتيّة على الإطلاق.  

وبالإضافة إلى ذلك، يتطلّب تنشيط الجهاز المناعيّ -أي إنتاج الأجسام المضادّة وإنشاء الذّاكرة المناعيّة- ابتلاع البكتيريا بواسطة خلايا متخصّصة، حتّى تتمكّن من تحليل بروتينات البكتيريا إلى أجزاء صغيرة وعرضها على بقيّة خلايا الجهاز المناعيّ. ومع ذلك، فإنّ جزيئات البكتيريا المرآتيّة ستكون مقاومة للتّحلّل، لأنّنا لا نملك بروتينات تتكيّف مع الكيراليّة العكسيّة. وبالتّالي، لن يتمّ تنشيط الجهاز المناعيّ ضدّها. 

من النّاحية الإيجابيّة، لن تكون بروتينات البكتيريا المرآتيّة قادرة على التّصرّف مثل السّموم أو بروتينات البكتيريا المسبّبة للأمراض. مع ذلك، لا ينبغي استبعاد احتمال خطورتها، إذ قد يكون تأثيرها مشابهًا لحالات نقص المناعة، مثل الإيدز، حيث يمكن للبكتيريا والفطريّات غير الضارّة عادة بالأشخاص الأصحّاء، أن تسبّب أمراضًا تهدّد حياة الأشخاص المصابين بأمراض نقص المناعة. بشكل مشابهٍ، عند مواجهة البكتيريا المرآتيّة، قد يستجيب جميع البشر بشكلٍ مماثلٍ لاستجابة المرضى الّذين يعانون من ضعف المناعة. على الرّغم من أنّ البكتيريا المرآتيّة قد تجد صعوبة في العثور على العناصر الغذائيّة في أجسامنا بالشّكل الّذي يناسبها، وأنّ الأحماض الأمينيّة الطّبيعيّة ستكون سامّة لها؛ إلّا أن الباحثين حدّدوا عدّة طرق يمكن أن تُتيح للبكتيريا المرآتيّة البقاء على قيد الحياة في أجسامنا، والتّسبّب في إتلاف الأنسجة، وتغيير كيمياء الدّم، وغيرها من العمليّات الّتي قد تكون قاتلة.

بالإضافة إلى ذلك، قد يكون علاج الأمراض الّتي قد تُسبّبها البكتيريا المرآتيّة أكثر تعقيدًا أيضًا. هناك بعض الأدوية المضادّة للبكتيريا الّتي ليست كيراليّة أو تحتوي على جزيئات ذات كيراليّة يمينيّة ويساريّة معًا، وبالتّالي من المرجّح أن تعمل على البكتيريا المرآتيّة أيضًا. مع ذلك، فإنّ معظم المضادّات الحيويّة لن تكون فعّالة ضدّها، ما لم تُطوَّر المضادّات الحيويّة المناسبة بالتّوازي مع تطوّر البكتيريا المرآتيّة.

نظرًا لعدم قدرة الجهاز المناعيّ على التّعرّف على البكتيريا المرآتيّة، فإنّ طرق التّطعيم الشّائعة لن تكون فعّالة ضدّها على الإطلاق. قد يكون من الممكن استخدام لقاح مقترن (Conjugate vaccine)، وهو لقاح يجمع بين جزيْء يصعُب استهدافه مع جزيْءٍ آخر يحفّز استجابة مناعيّة. لكنّ فعاليّة هذا اللّقاح لا تزال غير واضحة. كذلك، يمكن تطوير لقاح سلبيّ (Passive immunization)، أي يحتوي على أجسام مضادّة جاهزة، بحيث لا يحتاج الجسم إلى إنتاجها بنفسه، إلّا أنّ إنتاجه تجاريًّا يمثِّل تحدّيًا كبيرًا. أمّا الخيار الأخير، فيتمثّل في استخدام الفيروسات الّتي تقتل البكتيريا أي العاثيات (Bacteriophages)، وتصميم فيروسات مرآتيّة ضدّ البكتيريا المرآتيّة، ولكنّ هذا العلاج ما زال تجريبيًّا حتّى ضدّ البكتيريا الطّبيعيّة.

طُرِحت إمكانيّة هندسة الفيروسات الّتي تقتل البكتيريا وتحويلها إلى فيروسات مرآتيّة ضدّ البكتيريا المرآتيّة. العاثيات| مصدر: Dr. Victor Padilla-Sanchez, PhD, Wikimedia

البكتيريا المرآتيّة والبيئة

على غرار تأثيرها على البشر، يُرجّح أن تتمكّن البكتيريا المرآتيّة من التّهرّب من الأنظمة المناعيّة للحيوانات والنّباتات، لأنّ المشاكل متشابهة. ويحذِّر الباحثون أيضًا من إمكانيّة الانتشار السّريع للبكتيريا المرآتيّة من خلال الحشرات، الّتي تتمتّع بأنظمة مناعيّة أبسط من تلك الموجودة لدى الفقاريّات.

أمّا بالنّسبة للنّباتات، فمن غير المرجّح أنّ الموادّ الوقائيّة الّتي تفرِزها ضدّ البكتيريا لن تؤثر على البكتيريا المرآتيّة. ومع ذلك، تمتلك النّباتات آليّات إضافيّة قد تعيق نموّ البكتيريا، بما في ذلك زيادة تركيز الموادّ المؤكسدة، وتجفيف المناطق التّالفة من النّبات، والحدّ من مرور العناصر الغذائيّة إليها. قد تكون هذه الأنظمة مفيدة ضدّ البكتيريا المرآتيّة، ولكنّ ذلك يعتمد على مدى كفاءة أنظمة النّبات في التّعرّف على العدوى بشكل صحيح بالفعل، وتمييز الجزيئات الكيراليّة بشكلٍ صحيح.

يبدو أنّ معظم الأساليب المتّبعة في حماية النّباتات من العدوى البكتيريّة في الزّراعة لن تكون فعّالة ضدّ البكتيريا المرآتيّة. قد يكون من الممكن تطوير نباتات معدّلة وراثيًّا لمقاومة هذه البكتيريا، ولكن لم تتمّ محاولة ذلك حتّى الآن. إضافة إلى ذلك، فإنّ تعديل مئات أو آلاف أنواع النّباتات لتكون مقاومة للبكتيريا ليس حلًّا عمليًّا. قد يشكّل تعرّض الحيوانات والنّباتات للضّرر تهديدًا لمصادر الغذاء، ممّا يزيد من الخطر الّذي تشكّله البكتيريا المرآتيّة بما يتجاوز التّسبّب في الأمراض نفسها.

لن يكون للبكتيريا المرآتيّة أيّ مفترسات طبيعيّة أو أمراض، إذ قد لا تتمكّن الكائنات المفترسة الطّبيعيّة، مثل “الأميبا” (Amoeba)، من التّعرّف عليها كفريسة. كذلك، يُرجّح أن تكون البكتيريا المرآتيّة مقاوِمةً لجميع الفيروسات الطّبيعيّة الّتي تهاجم البكتيريا، بالإضافة إلى معظم الموادّ المضادّة للبكتيريا الطّبيعيّة الّتي تفرزها الحيوانات، النّباتات، الفطريّات، والبكتيريا المنافسة. عند ابتلاعها، قد تتعرّض البكتيريا المرآتيّة لظروف حمضيّة عالية في الجهاز الهضميّ وجزيئات مؤكسِدة من شأنها أن تلحِق الضّرر بها، ولكنّ الإنزيمات الهضميّة لن تستهدفها بشكلٍ خاصٍّ، ومن المحتمل أن يتمّ إفراز البكتيريا التّالفة. حتّى لو تمكّن مفترس معيّن من هضم البكتيريا المرآتيّة، فإنّ الجزيئات النّاتجة عن هضمها لن تفيده أو تغذّيه، ممّا يعني أنّ تعداد المفترس لن ينمو، بل قد ينخفض ​​مقارنة بتعداد البكتيريا المرآتيّة.

وأخيرا، سوف تكون البكتيريا المرآتيّة قادرة أيضا على العيش في التّربة والمسطّحات المائيّة، والتّكاثر في البيئة دون أيّ إزعاج تقريبًا. ممّا يعني أنّ تكاثرها قد يؤدّي إلى الإضرار بتكاثر البكتيريا الطّبيعيّة المهمّة للنّسيج البيولوجيّ في هذه المنافذ البيئيّة، وبالتّالي تعطيل سلسلة الغذاء بأكملها واستنزاف الموارد في البيئة. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون لتكاثرها السّريع تداعيات تطوّريّة، الّتي قد تؤثِّر على موارد بيئيّة إضافيّة- قد تحوّل العناصر الغذائيّة إلى جزيئات كيراليّة معاكسة لا يمكن للكائنات الطّبيعيّة في عالمنا استخدامها.

قد لا تتعرّف الكائنات المفترِسة الطّبيعيّة مثل “الأميبا” على البكتيريا المرآتيّة كفريسة. الأميبا| Lebendkulturen.de, Shutterstock

فرضيّات مستنيرة

يستند التّقرير بالكامل إلى فرضيّات مستنيرة، لأنّ التّكنولوجيا ذاتها لم تُكتشَف بعد. ويعتمد التّقرير على ما نعرفه عن البكتيريا الطّبيعيّة، وبيئتها وآليّات دفاعها ضدّها، وعلى القليل الّذي نعرفه حتّى الآن عن الجزيئات المرآتيّة البيولوجيّة. وقد يتبيّن بعد النّظر إلى الأمر أنّ كلّ هذا كان مجرّد ضجّة مبالغ فيها، ولكن من الأفضل أن نكون آمنين على أن نندم.

يتوقّع مؤلّفو التّقرير أن يكون مرجعًا لتطوير أنظمة تُقلّل من احتماليّة الضّرر الكامن في البكتيريا المرآتيّة. قد يساهم تحديد المخاطر في مساعدة مؤسّسات التّمويل والمجموعات البحثيّة الّتي تمتلك معارف حيويّة، على منع تسرّبها إلى جهات خبيثة أو متهوّرة. ولا يقتصر هذا التّقرير على الباحثين فحسب، بل يُوجَّه أيضًا إلى صانعي السّياسات في الهيئات الحكوميّة، والمنظّمات الخيريّة الّتي تموّل الأبحاث، وعامّة الناس.

حذّر “إيان مالكولم” في فيلم “جوراسيك بارك” قائلًا: “الحياة تجد طريقها”. كذلك، يحذّرنا مؤلّفو التّقرير من أنّ الكائنات الحيّة -وخاصّة البكتيريا- تميل إلى التّغلّب على العقبات وإيجاد طريقة للبقاء والتّكاثر. وينبغي للباحثين والعاملين في هذا المجال أن يأخذوا هذا الأمر في الاعتبار عند تطوير أبحاثهم.