دوران الشحنة
اكتشافات جديدة حول الآليّة التي تربط بين خاصّيَّتيْن للجسيمات - الدّوران والكيراليّة
في عام 1999، نشر الباحث رون نعمان، أستاذ الكيمياء الفيزيائيّة في معهد وايزمان للعلوم، مقالًا في مجلة Science جمع فيه بين الدوران (اللفّ المغزليّ) والكيراليّة (اللفّ اللولبيّ)- وهما خاصّيّتان للجسيمات لم تكن العلاقة بينهما معروفة حتّى اليوم. ولم يحصل نعمان على التقدير المستحقّ من المجتمع العلميّ على هذا الاكتشاف، إلّا بعد مرور أكثر من عقد من الزمان، حيث نال اعترافًا دوليًّا على شكل جوائز وشهادات تقدير مرموقة.
اكتشافات جديدة تكشف آليّة الربط بين خاصيّتي الدّوران والكيراليّة للجسيمات
في عام 1999، نشر البروفيسور رون نعمان (Naaman)، أستاذ الكيمياء الفيزيائيّة في معهد وايزمان للعلوم، دراسة رائدة في مجلة Science تناولت العلاقة بين خاصّيّتين أساسيّتين للجسيمات: الدوران (Spin) والكيرالية (Chirality). آنذاك، لم تكن هناك معرفة كافية بكيفيّة ارتباط هاتيْن الخاصّيّتين أو تأثير إحداهما على الأخرى. وقد شكّل هذا البحث اختراقًا علميًّا، لكونه أوّل من أشار إلى وجود آليّة تربط بينهما.
رغم اكتشاف هذا التأثير، الذي لوحِظَ لاحقًا من خلال سلسلة طويلة من الموادّ والأنظمة، فإنّه لم تُفهَم الآليّة الدّقيقة وراء هذه الظاهرة على المستوى المجهريّ بالشكل الكامل بعد. وفقًا لدراسة نُشرت في وقت سابق من هذا العام (2025) في مجلة Science Advances، تمكَّن الباحثون من تحديد جزء كبير من الآليّة والتّحقّق من فرضيّتهم تجريبيًّا. أشرف على البحث يوسي بالتيل (Yossi Paltiel)، عميد كلّيّة الرياضيّات والعلوم الطبيعيّة في الجامعة العبريّة وزميل مقرَّب من نعمان، وأنجيلا فيتمان (Wittmann) من جامعة يوهانس جوتنبرج في ماينز، ألمانيا.
الدَّوران؟ الكيراليَّة؟ ما مفهوم هذه المصطلحات أصلًا؟
الكيراليّة هي خاصّيّة أساسيّة في الكيمياء. الذّرَّة، الوحدة الأساسيّة لأيّ عنصر كيميائيّ، هي جسيم يتكوَّن من نواة يحتوي على بروتونات ونيوترونات محاطة بالإلكترونات. تُسمّى الذرَّتان أو أكثر ذرَّتيْن مرتبطتين معًا بالجُزيء. عندما يكون هناك جزيْئان يمثّل أحدهما صورة مرآوية للآخر – تمامًا كما تتقابل يدانا اليمنى واليسرى – فإنّ بنيتهما الكيميائيّة تكون متطابقة: كلاهما يتكوّن من نفس الذرّات، وهذه الذرّات ترتبط فيما بينها بنفس الروابط الكيميائيّة. مع ذلك، فإنّ ترتيب الذرّات في الفراغ حول مركز الجزيء يكون مختلفًا، ممّا يؤدّي إلى اختلاف في خصائصِهما وسلوكِهما الكيميائيّ. هذه الأزواج من الجزيئات، التي تُعرف باسم “المتصاوغات المرآتيّة (Enantiomers)”، لا يمكنها أن تتطابق تمامًا مع بعضها. تعود كلمة “كيراليّة” إلى الكلمة اليونانيّة “χειρ” (كير)، والتي تعني “يد”. والجُزيء الّذي له نظير مرآوٍ مطابق في التركيب ويختلف في التوزيع الفراغيّ يُسمّى “جزيئًا كيراليًّا”.
من جهة أخرى، فإنّ الدوران هو خاصّيّة أساسيّة في الفيزياء الكموميّة. هذه خاصّيّة داخليّة للجسيمات، يشبّهها البعض بنوع من الزخم الزاوي لجسيم مشحون يدور حول نفسه. على سبيل المثال، يمكن للإلكترونات أن تدور في حالتَيْن فقط، “للأعلى” و”للأسفل”.
عندما تكون جزيّئتان عبارة عن صورتَين معكوستَيْن لبعضهما البعض، فهما تتكوّنان من نفس الذرّات - لكنّ ترتيبهما في الفضاء نسبة لمركز الجزيء يختلف، وبالتالي تختلف خصائصُهما أيضًا. جزيئات كيراليّة | Shutterstock, SANDIP NEOGI
الانتقائيّة الدّورانيّة
اكتشف نعمان ومجموعته البحثيّة أنّ قدرة الإلكترون على التحرّك عبر مادة كيراليّة تعتمد على دورانه. يعتمد الدوران المثاليّ على كيراليّة الجزيء: بالنسبة لمصاوِغ مرآتي معيّن، يكون اتّجاه الدوران المفضّل موازيًا لاتّجاه سرعة الإلكترون، وبالنسبة للمصاوِغ مرآتي الآخر يكون الاتّجاه المفضّل معاكِسًا لسرعةِ الإلكترون. يُعرف هذا التأثير اليوم باسم “الانتقائيّة الدّورانيّة المستحثّة بالكيراليّة” (CISS).
على ضوء هذا التّأثير، يمكن للجزيئات العضويّة الكيراليّة أن تعمل بمثابة “مرشّح للدّوران”: فقد وجد نعمان وزميله زئيف واجر من كلية الفيزياء في معهد وايزمان للعلوم، أنّ الحمض النوويّ في درجة حرارة الغرفة هو أيضًا مثل هذا الجزيء، لأنّه يتفاعل مع الدورات في اتّجاه واحد فقط. يعد هذا الاكتشاف مفاجِئًا لأنّ التأثيرات الكمّيّة عادةً ما تُلاحَظ عند درجات حرارة منخفضة للغاية – قريبة من الصّفر المطلَق – ونادرًا ما يُعثَر عليها في درجات حرارة أعلى.
يمكن للجزيئات العضويّة الكيراليّة، بما في ذلك الحمض النوويّ، أن تعمل بمثابة "مرشّح دوران". رسم توضيحيّ لدليل مزدوج يقوم بتصفية الجسيمات بدوران محدد | ill./©: Angela Wittmann
كيراليّة مختلفة، اتّجاه مختلف
للتعمّق في تعقيدات هذا التأثير، فحص بالتيل وويتمان وزملاؤهما في الدراسة الحاليّة تأثير الكيراليّة على دوران الإلكترونات في الأنظمة الهجينة – الأنظمة التي تجمع بين المعدن وجزيء كيراليّ. لقد فحصوا تأثير CISS، أي انتقائيّة الدوران، عن طريق تحويل الدّوران إلى شحنة كهربائيّة. لقد تأثّر التحويل نفسه بشكل كبير بالكيراليّة للنظام الهجين.
استخدم الباحثون مجالًا مغناطيسيًّا خارجيًّا وزاويته بالنسبة لمستوى العيّنة للتحكّم في اتّجاه الدوران. عندما يحتوي النظام الهجين، المكوّن من جُزيء كيراليّ ومعدن، على خليط غير كيراليّ من الجزيئات، أي كمّيّات متساوية تقريبًا من المتماثلين الضوئيّين، لم يكن هناك علاقة بين الدوران واتّجاه المجال المغناطيسيّ، وبالتالي في مثل هذه الحالة لا يوجد انتقائيّة للدوران. على النقيض من ذلك، عندما احتوى النظام على متماثل ضوئيّ واحد فقط من الجزيء الكيراليّ، كُسِرَ التناظر وكُشِفَ عن أهمّيّة الدوران في هذا النظام.
نعمان هو ثالث إسرائيليّ يفوز بالميداليّة، والثالث أيضًا من معهد وايزمان: سبقه إيمانويل جيل-آف، المعروف بأبحاثه حول فصل المتماثلات الضوئيّة، ومائير لاهاف، الذي حدّد مع زميلته ليزلي ليزيروفيتش العلاقة بين بنية البلورات وتماثلها المكانيّ، وخاصّة كيراليّتها. واقترح لاهف أيضًا الاسم العبريّ “يادنوت” للكيراليّة، والذي لم يُقبَل بعد من أكاديميّة اللغة العبريّة.
وبسبب هذا التأثير، يمكن للمركّبات العضويّة الكيراليّة أن تعمل كـ**”مرشّحات سبين”**. فقد اكتشف ناعمان وزميله زئيف فاغر من كلّيّة الفيزياء في معهد وايزمان للعلوم، أنّ الحمض النوويّ (DNA) في درجة حرارة الغرفة يمكنه أن يقوم بهذا الدور، لأنّه يتفاعل مع السبينات في اتّجاه واحد فقط. هذا الاكتشاف كان مفاجِئًا، لأنّ الظواهر الكمّيّة تُرصَد عادةً عند درجات حرارة منخفضة جدًّا – قريبة من الصّفر المطلق – ونادرًا ما تُلاحظ عند درجات حرارة أعلى.
أظهرت القياسات الإضافيّة أنّ الدوران يكون انتقائيًّا خاصّةً عندما يكون موازيًا لمحور الكيراليّة – وهو المحور الذي تترتّب الذرّات حوله بطريقة تُنتج خاصّيّة الكيرالّية. يوضّح هذا الدور المهمّ لتأثير كموميّ أساسيّ يُعرف باسم “اقتران الدوران-المدار” (Spin-Orbit Coupling)، والذي يربط بين دوران الجُسيْم ومسار حركته.
يؤثّر هذا الاقتران بشكل كبير على خصائص الأنظمة الكموميّة، مثل مستويات طاقة الإلكترونات في المادّة، وبالتالي على خصائص المادة ككُلّ. فمثلًا، في ذرّة الهيدروجين التي تُعد من أبسط النماذج في ميكانيكا الكمّ، يُمثل اقتران الدوران–المدار التفاعل بين دوران الإلكترون وزخمه الزاوي المداري الناتج عن حركته حول النواة.
في النظام المستخدم في التجربة، وُجد اقتران بين دوران الإلكترون والزخم الزاوي المداري للجزيء الكيراليّ، وهو زخم ناتج عن الحركة الفيزيائية للجزيء، وليس عن دوران داخليّ (spin). وعلى غرار اقتران الدوران–المدار في ذرّة الهيدروجين، يشتدّ هذا الاقتران عندما يكون محور الدوران ومحور الزخم الزاوي متوازيين.
يشير الباحثون إلى أنّ قوة اقتران الدوران–المدار في الجزيئات الكيراليّة ضعيفة جدًّا، بحيث لا تفسّر بمفردها الترشيح الدورانيّ الكبير الذي رُصِده في التجارب، غير أنّ هذا الاقتران يتفاعل مع الشّحنة الكهربائيّة عند نقطة الاتصال بين المعدن والجزيئات الكيراليّة، ممّا يؤدّي إلى ظهور تأثير الانتقائيّة اللولبيّة المحفَّزة بالتشابك الجزيئيّ (CISS).
وإذا كنت تتساءَل كيف يمكن تحويل الدوران إلى شحنة كهربائيّة، فالإجابة تكمن في تأثير هول (Hall effect): عندما يُفعّل مجال مغناطيسيّ على موصل، ينتج جهد كهربائيّ عموديّ باتّجاه تدفّق الإلكترونات. في هذه الحالة، يُنتج اقتران الدوران–المدار تيّارًا كهربائيًّا عموديًّا باتّجاه استقطاب الدوران، ولهذا يُعرّف هذا التأثير باسم “تأثير هول الدورانيّ العكسيّ”.
ويقول الباحثون إنّ تجاربهم كشفت عن دليل آخر يساعد في فهم الآليّة وراء تأثير CISS. إنّ هذا التأثير له العديد من التطبيقات المحتملة، على سبيل المثال في صناعة الإلكترونيّات الدورانيّة، حيث تُجرَى محاولات لاستخدام مجموعات الدوران لاستشعارِ المعلومات وتخزينها.
يقول الباحثون إنّ تجاربهم كشفت عن جانب إضافيّ يساعد في فهم الآليّة الكامنة وراء تأثير CISS. لهذا التأثير العديد من التطبيقات المحتملة، على سبيل المثال في مجال الإلكترونيات المغزليّة (spintronics)، حيث تُبذل جهود للاستفادة من ترتيبات السبين في أغراض الاستشعار وتخزين المعلومات.