منذ أن عرف الإنسان بحر الشّمال، كانت الأنهار الجليديّة موجودة فيه دائمًا – حتّى في ذروة الصّيف. لكن بسبب تغيّر المناخ، من المتوقّع أن يأتي أوّل صيف في القطب الشّماليّ، والّذي سيذوب فيه كلّ الجليد تقريبًا في المحيط الشّماليّ، وأبكر بكثير ممّا كنّا نعتقد. في مرحلةٍ ما، لن يتبقّى ما يكفي من الجليد في المحيط المتجمّد الشّماليّ، ليكون عامل تبريد مهمًّا، وتحذر دراسة جديدة من أنّ هذا اليوم قد يأتي، في السّيناريو الأكثر تطرّفًا، في عام 2027. وتشير الدّراسة إلى أنّ الاحتمال الأعلى هو أن يأتي هذا اليوم في غضون سبعة إلى عشرين عامًا. ولكن كانت هناك أيضًا نماذج أشارت إلى تاريخ أبعد كثيرًا، وبعد دراسة جميع النّماذج، فإنّ التّنبّؤ المتوسّط هو أنّ مثل هذا اليوم الأوّل سيصل خلال 24 عامًا.

من المتوقّع أن يأتي أوّل صيف في القطب الشّماليّ، حيث يذوب كلّ الجليد تقريبًا في المحيط الشّماليّ، وأسرع بكثير ممّا كنّا نعتقد. صورة لبحر الشّمال والجليد الّذي يغطّيه في صيف عام 2024. باللّون الأصفر: متوسّط الغطاء الجليديّ بين عامَيْ 1981 و2010 | NOAA, NSIDC
عندما ينفد الجليد
يُعرَّف “اليوم الخالي من الجليد” بأنّه اليوم الّذي تنخفض فيه كمّيّة الجليد البحريّ في المحيط المتجمّد الشماليّ، إلى أقلّ من مليون كيلومتر مربع – وهي المساحة الدُّنيا، وفقًا للحسابات الحاليّة، حيث يظلّ الجليد بمثابة طبقة تبريد كبيرة في منطقة القطب الشّماليّ. للمقارنة، بلغت مساحة الجليد البحريّ خلال الفترة الأكثر دفئًا في العام الماضي حوالي 3.4 مليون كيلومتر مربع. ووفقًا لدراسة أُجريت عام 2023، ودراسات أخرى مماثِلة، من المتوقّع أن تكون عمليّة ذوبان الجليد أبطأ بكثير، مع عدم وجود يوم خالٍ من الجليد على الأقلّ حتّى نهاية القرن الحادي والعشرين. أمّا الدّراسة الجديدة، فتُقدِّم توقّعات أكثر تشاؤمًا.
استخدمت الباحثات من الولايات المتّحدة والسّويد نماذج مناخيّة متقدّمة من مشروع أبحاث المناخ CMIP6، والّذي يتضمّن أحدث جيل من محاكاة المناخ. ويهدف المشروع، واسمه الكامل هو Coupled Model Intercomparison Project Phase 6، إلى تحسين القدرة التّنبّؤيّة للنّماذج الحاسوبيّة الحاليّة المستخدمة للتّنبّؤ بتغيّر المناخ. وتساعد الأدوات الّتي تقدّمها البلدان والهيئات الدّوليّة على فهم العواقب المحتملة للاحتباس الحراريّ، والتّخطيط للسّياسات البيئيّة وفقًا لذلك. إنّها تتطلّب قوّة حسابيّة هائلة، لأنّها تزن الكثير من البيانات والتّنبّؤات.
وعلى النّقيض من الدّراسات السّابقة، الّتي اعتمدت على التّوقّعات الشّهريّة، قامت الدّراسة الجديدة بفحص بيانات الطّقس اليوميّة، لإنشاء توقّعات أكثر دقّة لوصول أوّل “يوم خالٍ من الجليد”. استخدم الباحثون 11 نموذجًا أظهرت توافقًا جيّدًا مع البيانات السّابقة، واستخدموها لإنشاء 366 توقعًا مختلفًا لفحص مجموعة واسعة من سيناريوهات المناخ. صُمِّم التّرجيح بواسطة CMIP6 لتقدير تأثيرات التّغيّر المناخيّ الّبيعيّ، وتأثير انبعاثات الغازات المسبّبة للاحتباس الحراريّ، والعلاقات المعقّدة بين المحيط والاحتباس الحراريّ في الغلاف الجوّيّ بأكبر قدر ممكن من الدّقّة.

أنشأ الباحثون 366 توقعًا مختلفًا لفحص مجموعة واسعة من سيناريوهات المناخ. يوضّح الرّسم البيانيّ النّسبة المئويّة للنّماذج التي تتنبّأ بيوم خالٍ من الجليد خلال عدد معين من السّنوات. تمثّل الألوان المختلفة سيناريوهات ذات مستويات منخفضة (أزرق) أو عالية (أصفر)، من انبعاثات الغازات المسبّبة للاحتباس الحراريّ | من المقال Heuzé, C., et al., Nat Commun 2024
سيناريو مرعب
أشارت المحاكاة إلى أنّه قد يبدأ يوم خالٍ من الجليد في أعقاب سلسلة من الأحداث الجوّيّة المتطرّفة في القطب الشّماليّ. وسوف يبدأ التّسلسل بخريف أكثر دفئًا من المعتاد، ممّا سوف يُضعِف الغطاء الجليديّ، ثمّ يتبعه ارتفاع غير طبيعيّ في درجات الحرارة خلال الشّتاء والرّبيع، وهو ما لن يسمح للجليد بالتّجدُّد، وفي نهاية المطاف صيف شديد الحرارة بشكل استثنائيّ مع عواصف من شأنها أن تذيب الجليد المتبقّي. في الواقع، تُسجّل بالفعل اتّجاهات السّنوات الدّافئة بشكل خاصّ: فشهر مارس/آذار 2022 في الدّائرة القطبّيّة الشّماليّة، الّذي كان أكثر دفئًا بعشر درجات مئويّة من المتوسّط المتعدّد السّنوات لهذا الوقت من العام، قد يُشير إلى الاتّجاه الّذي نسير فيه.
يعمل اللّون الأبيض السّاطع لجليد بحر القطب الشّماليّ كنوع من المرآة الطبيعيّة، حيث يعكس أشعّة الشّمس إلى الفضاء، ويساعد في تنظيم درجة الحرارة. ولكن مع انكماش المنطقة المغطّاة بالجليد، تنكشف مساحة متزايدة من سطح المحيط المظلم وتمتصّ المزيد من الحرارة. وتكون النّتيجة زيادة التّسخين وتسريع عمليّة الذّوبان. ويؤدّي هذا إلى خلق حلقة تغذية مرتدّة إيجابيّة، حيث تتفاقم كلّ مرحلة من مراحل الانحباس الحراريّ مع مرور الوقت. وقد تؤدّي هذه التّغيّرات إلى تعطيل أنماط الرّياح، والتّأثير على تيارات المحيطات، وزيادة وتيرة الأحداث الجوّيّة المتطرّفة في جميع أنحاء العالم، وخاصّة في نصف الكرة الشّماليّ.
إنّ يومًا واحدًا خاليًا من الجليد قد لا يؤدي إلى تغيير نظام المناخ العالميّ بين عشية وضحاها، لكنّه سيظلّ بمثابة نقطة تحوّل دراماتيكيّة. وبحسب باحثة المناخ ألكسندرا جان (Jahn) من جامعة كولورادو بولدر، الّتي وقّعت على المقال، فإنّ مثل هذا الوضع يشير إلى أنّنا قمنا بتغيير جذريّ في إحدى الخصائص الرّئيسيّة لمنطقة القطب الشّماليّ – طبقة الجليد والثّلوج التي كانت موجودة هناك طوال العام.
تؤكّد الباحثات بأنّ خفض انبعاثات الغازات المسبّبة للاحتباس الحراريّ بشكل كبير في جميع أنحاء العالم، قد يؤدّي إلى إبطاء الجدول الزّمنيّ، ممّا يقلّل من المدّة الّتي سيظلّ فيها المحيط المتجمّد الشّماليّ خاليًا من الجليد. وتقول جان: “إنّ أيّ خفض في الانبعاثات من شأنه أن يساعد في الحفاظ على الجليد”.
لكن هل ستتمكّن البشريّة من القيام بذلك قبل فوات الأوان؟ لقد شهد عام 2024 علامة فارقة مثيرة للقلق: فقد ارتفعت درجة الحرارة العالميّة المتوسّطة لأوّل مرّة إلى أكثر من 1.5 درجة مئويّة، مقارنةً بالوضع الّذي ساد قبل ذروة الثّورة الصّناعيّة (1850-1900). وقد تمّ تحديد هذه العتبة كخطّ أحمر في اتّفاق باريس، الّذي كان يهدف إلى تعزيز التّعاون العالميّ، بهدف الحدّ من العواقب الوخيمة الّتي من المتوقّع أن يخلّفها تغيّر المناخ على بيئة الأرض والحياة البشريّة. والآن، يبدو أنّه قد تمّ عبوره بالفعل. إذا لم نتحرّك على الفور، فقد نجد أنفسنا ننطلق في مسار مدمّر أحادي الاتّجاه، حيث لن يظلّ جليد الدّائرة القطبيّة الشّماليّة، الّذي عمل لآلاف السّنين كثلاجةٍ ضخمة لمناخ الأرض، سوى ذكرى بعيدة.