فئران تواجه فأرًا فاقدًا للوعي وتقوم بسلسلة من الإجراءات، بما في ذلك سحب لسانه نحو الخارج، ومن المرجّح أنّ يكون المقصود منها مساعدته على التعافي.

ماذا ستفعلون إذا قابلتم شخصًا فاقدًا للوعي؟ بالتأكيد سوف تطلبون المساعدة، وتقومون باستدعاء سيارة إسعاف، وتحاولون الاعتناء به بأنفسكم حتّى تصل، قدر المستطاع: تتأكّدون من قدرته على التنفّس، وربّما تعالجونه باستخدام جهاز مزيل الرجفان، إذا وجد في البيئة المجاورة.

ماذا تفعل الحيوانات إذا رأت أحد أفراد جنسها فاقدًا للوعي أو مصابًا؟ لا يوجد سوى عدد قليل من الملاحظات لمثل هذه الحالات، بما في ذلك رؤية الشمبانزي وهو يلمس أحد أفراد مجموعته الّذي فقد وعيه، بل ويلعق جروحه، والفيلة تساعد أقاربها المرضى، وحتّى الدلافين تدعم أصدقاءها الموجودين في محنة، وتدفعهم إلى سطح الماء لتنفّس الهواء. نُشرت مؤخّرًا دراسة أجراها باحثون من الولايات المتّحدة، قاموا من خلالها بفحص استجابة الفئران لوجود فأر فاقد للوعي. تُظهر النتائج أنّ الرغبة في مساعدة الصديق المحتاج موجودة أيضًا لدى هذه الثدييات الصغيرة، ويبدو أنّ أفعالها، وخاصّة سحب ألسنتها وتنظيف أفواهها من الأجسام الغريبة، يمكن أن تساعد بالفعل الفئران المصابة على التعافي.

فأر يحاول مساعدة صديقه فاقد الوعي

علاج خاصّ

خطرت فكرة الدراسة في بال لي تشانغ (Zhang)، باحث في مجال الدماغ بجامعة جنوب كاليفورنيا، عندما قام بفحص أحد الفئران في مختبره تحت التخدير، ثمّ أعاده إلى قفصه للتعافي. اقترب منه رفيق الفأر على الفور، قام بشمّه، ثمّ بدأ يتصرّف بطريقة غريبة، لعق عينيه وحاول عضّه برفق في منطقة الفم. وقد لاحظ تشانغ وفريقه سلوكًا مشابهًا عدّة مرّات عندما أعادوا الفئران الّتي كانت لا تزال تحت التخدير إلى أقفاصها. قرّروا التحقّق من الموضوع: هل تتفاعل الفئران بشكل مختلف مع أقرانها عندما تكون فاقدة للوعي؟

قام الباحثون بوضع الفئران المخدّرة في أقفاص والفئران اليقظة والنشطة في أقفاص أخرى، ثمّ قاموا بفحص سلوك الفئران الّتي كانت بالفعل في القفص لمدّة ال 13 دقيقة التالية. أظهرت النتائج فرقًا واضحًا بين الحالتين. أوّلاً، أولت الفئران اهتمامًا أكبر بكثير للفئران فاقدة الوعي: بعد وضع فأر مخدّر في قفص، قضى الفأر الموجود بالفعل هناك ما يقرب من نصف وقته في المتوسّط ​​بجانبه، يلمسه ويعضّه؛ وعلى النقيض من ذلك، عندما تمّ وضع فأر نشط في قفص، خصّص زميله في القفص، في المتوسّط، أقل من ستّة في المائة من وقته له.

كانت الإجراءات الّتي اتّخذتها الفئران مختلفة أيضًا. “بدأت بالشمّ، ثم انتقلت إلى تنظيف فروتها، ثمّ قامت بأفعال جسديّة مكثّفة للغاية”، كما وصفها تشانغ لموقع New Scientist. “لقد فتحت الفئران  فم الفأر وقامت بإخراج وسحب  اللّسان.” وقد حدث سحب اللّسان في أكثر من نصف الحالات عندما تمّ تخدير الفأر، ولكن لم تتمّ رؤيته عندما كان الفأر مستيقظًا ونشطًا أو نائمًا بشكل طبيعيّ. كما تمّ تخصيص لعق العين والعضّ في منطقة الفم للفئران فاقدة الوعي فقط.

تميل الفئران إلى إظهار هذا السلوك بشكل أكبر عندما يكون الفأر المخدّر مألوفًا لها وكان شريكها في القفص لبعض الوقت. عندما كان فأرًا غير مألوف لديها، كانت تشمّه باهتمام، لكنّها كانت تبذل جهدًا أقلّ في العضّ وسحب اللّسان.

“بدأت بالشمّ، ثمّ انتقلت إلى تنظيف فرائها… ثمّ أخرجت ألسنتها.” فأر يعالج فأرًا مخدّرًا | الرسم التوضيحيّ: P. Cao et al., Sci. Adv. 11, eadq3874 (2025), CC BY 4.0

“استجابة لحالة طارئة”

ما هو الهدف من كلّ هذه الإجراءات؟ يعتقد الباحثون أنّ الهدف من هذه “العلاجات” كان مساعدة الفئران فاقدة الوعي على الاستيقاظ، وبالفعل، بدأت الفئران المخدّرة الّتي تلقّت مثل هذا “العلاج” في التحرّك واستعادة الوعي قبل وقت قصير من الفئران الّتي لم تتلقَّ العلاج. قد يؤدّي سحب اللسان إلى فتح مجرى الهواء لدى الفأر، ما يساعده إذا كان يعاني من صعوبة في التنفّس. بالإضافة إلى ذلك، عندما وضع الباحثون حبيبات صغيرة في أفواه الفئران المخدّرة، فإنّ الفئران الّتي تعاملت معها قامت ببصق الحبيبات في حوالي 80 في المائة من الحالات. “كان هذا هو الجزء الأكثر إثارة للدهشة في الدراسة” قالت هويجونغ ويت تاو (Whit Tao)، وهي باحثة أخرى وقّعت على المقال، في مقابلة مع إذاعة NPR الأمريكيّة. “لا شكّ أنّ أفعالها لها تأثير مفيد.” أظهرت دراسة منفصلة نُشرت مؤخّرًا أنّ سحب اللسان ينشّط دائرة عصبيّة تعمل على تسريع عودة الوعي لدى الفئران المخدّرة.

وأضاف ويت تاو أنّ القدرة على القيام بهذه الأفعال، ومعرفة متى يجب القيام بها، تبدو من الفطرة، حيث لم يكن لدى الفئران الفرصة لتعلّمها من الآخرين. وأشارت إلى أنّ “هذه هي المرّة الأولى الّتي نرى فيها هذا النوع من “الاستجابة الطارئة” لدى الحيوانات”.

 وعلّق جيمس بوركيت (Burkett)، وهو عالم أعصاب أمريكيّ لم يشارك في الدراسة، بأنّ حقيقة إيلاء الفئران  اهتمامًا أكبر للتفاصيل المألوفة تشير إلى ممارسة الحكم. “إنّها لا تتفاعل تلقائيًّا مع ما تراه. إنّها تأخذ في الاعتبار حالة الفأر وهويّته عند تحديد كيفيّة الاستجابة.”

ومع ذلك، هناك أيضًا باحثون غير مقتنعين بعد. قالت عالمة الأعصاب الأمريكيّة بيجي ماسون (Mason) لإذاعة NPR إنّه قد تكون هناك تفسيرات أخرى لأفعال الفئران. على سبيل المثال، ربّما كانت الفئران فضوليّة بشأن رؤية الفئران فاقدة الوعي، وكانت اللدغات واللعقات تهدف إلى الفحص وجمع المعلومات، وليس إلى تقديم العلاج. ربّما نجحت  في جعل الفأر المخدّر يستيقظ بشكل أسرع، لكنّ هذا لا يعني أنّ هذا كان هدفها. “إذا أسقطت عن طريق الخطأ ورقة نقديّة من فئة عشرين دولارًا في الشارع، وقام شخص آخر بالتقاطها، فقد يكون هذا الشخص قد حصل على المساعدة، لكنّني لم أساعده”، قالت. “اكتشف الباحثون في الدراسة الجديدة سلوكًا مثيرًا للاهتمام، وأنا لا أختلف معهم في ذلك. كما أنّني لا أتّفق مع التفسير الّذي قدّموه له.”

أجابت ويت تاو إنّه إذا كان السلوك مدفوعًا بالفضول، فمن المتوقّع أن نرى انخفاضًا في هذه الأفعال على مدار الدراسة الّتي استمرّت خمسة أيام. الفئران، مثل غيرها من الحيوانات، حريصة بشكل خاصّ على استكشاف أشياء جديدة لم ترها من قبل. وبعد بضعة أيام، لن يكون الفأر المخدّر جديدًا بالنسبة لها، لذا يمكن أن نتوقّع أنّها ستفقد الاهتمام به. “ولكنّنا رأينا العكس تمامًا”، كما أشارت ويت تاو. “ولم يكن هناك أيّ انخفاض في هذا السلوك بمرور الوقت، بل كان هناك حتّى زيادة طفيفة.”

ليست الفئران فقط؟


ليس فقط الفئران والبشر هم من يهتمّون بأبناء جنسهم. شمبانزي تقوم بمساعدة صديقها الّذي سقط من أعلى الشجرة | صورة:  Shimada, M., Yano, W., Sci. Rep. 13, 16661 (2023), CC BY 4.0

 

في محاولة لفهم الآليّة وراء سلوك الفئران، قام الباحثون بفحص النشاط العصبيّ في عدّة مناطق من أدمغتها. اكتشف الباحثون أنّه عندما يواجه فأر فأرًا فاقدًا للوعي، فإنّ خلايا عصبيّة معيّنة في منطقة من الدماغ تُسمَّى تحت المهاد تفرز مستويات عالية من الناقل العصبيّ الأوكسيتوسين، والّذي يشارك في الروابط الاجتماعيّة، الروابط الزوجيّة، الروابط بين الأم والطفل، وأكثر من ذلك. وعندما تسبّب الباحثون في توقّف إطلاق هذه الخلايا العصبيّة أثناء مواجهة فأر مخدّر، قضى  الفأر وقتًا أقلّ في تنظيف ولعق وعضّ رفيقه فاقد الوعي. وعلى النقيض من ذلك، عندما جعل الباحثون الخلايا العصبيّة تطلق إشارات أكثر قوّة، زاد تفاعل الفأر مع الفأر المخدّر، وخاصّة إذا كان غريبًا.

في الوقت نفسه، نُشرت دراسة أخرى أجراها باحثون من جامعة كاليفورنيا، قد كشفت عن نتائج مماثلة لدراسة تشانغ وزملائه. في هذه الدراسة، أظهر الباحثون أنّ بعض الخلايا العصبيّة في منطقة صغيرة من الدماغ تُسمَّى اللوزة، وهي المسؤولة عن الاستجابات العاطفيّة وتنظيم السلوك الاجتماعيّ، ترتبط بالتعرّف على فأر فاقد للوعي والاستجابة له. وقد أدّى تنشيط هذه الخلايا العصبيّة إلى زيادة استجابة العلاج لدى الفأر المخدّر، كما أدّى قمع نشاط الخلايا إلى قمع العلاج أيضًا.

كيف يرتبط النشاط في منطقتين مختلفتين من الدماغ بنفس السلوك؟ تشرح مقالة مصاحبة للدراستين أنّ فروع الخلايا العصبيّة المفرزة للأوكسيتوسين في منطقة ما تحت المهاد تصل إلى اللوزة الدماغيّة، وبالتالي يمكنها التأثير في نشاط الخلايا العصبيّة هناك والمرتبطة بسلوكيّات اجتماعيّة معيّنة.

يشارك هورمون الأوكسيتوسين في العلاقات الاجتماعيّة ليس فقط في الفئران، بل في العديد من الأنواع الأخرى، بما في ذلك البشر. إنّ حقيقة مشاركتها في السلوك الّذي لوحظ في الدراسة تشير إلى إمكانيّة وجود سلوك مماثل أيضًا في حيوانات أخرى، ويعتمد على نفس آليّة الدماغ. نحن نعلم أنّ الجرذان، وهي نوع وثيق الصلة بالفئران، تساعد بعضها البعض وتحرّر أصدقائها عندما يتمّ حبسها في زنزانة ضيّقة. تتقاسم العديد من الأنواع، سواء الثدييات أو الطيور، الغذاء مع بعضها البعض. قد لا يكون من الغريب أن نعتقد أنها قد تقدّم لبعضها البعض الإسعافات الأوليّة عندما تحتاجها.