الزرازير على أشكالها تقع

يقول المثل الإنجليزيّ “نحتاج قريةً بأكملها لنربي طفلًا”، ويأخذ طائر الزرزور الأنيق (Lamprotornis superbus) من عائلة الزرازير هذا المثل على محمل الجدّ. تعيش هذه العصافير المُلوَّنة بمجموعات من عشرات الأفراد في شرق إفريقيا. تساعد عصافير المجموعة الأبوين في إطعام فراخهما وحمايتها من الكائنات المفترسة. قد يبلغ عدد العصافير الّتي تقوم بمساعدة الأبوين ستة عشر فردًا!

لماذا تكِدّ العصافير في إطعام فراخ غيرها، حتّى من طعامها هي، وتبذل الجهد وتضيع الوقت في مساعدتها؟ يمكن مشاهدة مثل هذا التعاون كثيرًا لدى العصافير ولدى أنواع معيّنة من الثديّات الودودة، كما أنّ التشارك بالطعام واسع الانتشار بين الحيوانات. ما زالت هذه السلوكيّات، على الرغم من رَواجها، تُشكّل لغزًا تطوريًّا. يُملي الانتقاء الطبيعيّ انتقال الخصائص الوراثيّة الّتي تساهم في بقاء الفرد على قيد الحياة وإنجاب الذُّرّيّة إلى الأجيال القادمة، وانتشارها بين أفراد المجموعة. لقد تطوّرت خصائص الركض السريع، والبصر الحادّ الثاقب، والجهاز المناعيّ القادر على مجابهة الأمراض بنجاعة متزايدة، وغيرها من الخصائص الّتي تساهم في بقاء الكائن الحيّ على قيد الحياة، بهذه الآليّة. من السهل فهم كيفيّة تطوّر خاصيّة دأب الفرد على حماية ذريّته وتوفير الطعام لهم، إذ يزداد احتمال بلوغ ذريّة من يفعل ذلك سنّ البلوغ.  

إلّا أنّ قيام الزرزور بتوفير الغذاء لِفراخ غيره من الزرازير يجعله يبذل الجهود والموارد الّتي كان بوسعه استغلالها في زيادة إمكانيّة إنجاب الذريّة خاصّته: كان بوسعه تناول الغذاء بنفسه وتقوية جسده، أو قضاء الوقت في مغازلة الإناث. كيف تطوّرت هذه الخاصّيّة الّتي لا تساهم في إمكانيّة الفرد من العصافير نقل مورثاته (جيناته) للأجيال القادمة، بل تضرّ بها؟ 

ساعِدني وأساعدك

يمكن أن تكون لهذا السؤال بضعة أجوبة. قد يكون المساعدون أقرباء عائلة الوالدين. تنتقل المورثات، إذا كانت هذه هي الحالة، للأجيال القادمة، إذ يتقاسم المساعدون الكثير من مورِثاتهم مع مورثات الفراخ الّتي يطعمونها. توجد قرابة وراثيّة بين الجانبين، مع أنّها لا توازي قرابة فراخ الزرازير المُساعدة، عندما تنجبها مستقبلًا. إذا منع ظرف ما الزرزور من أن يتكاثر في موسم التكاثر، فقد تكون أمثل طريقة لضمان استمراريّة مورثاته هي تقديم المساعدة لأبناء أخيه. 

لا يتحتّم طبعًا على الزرازير أن تعرف علم الوراثة، ولا أن تفهم كيف يساهم ما تقوم به (تطعم فراخ غيرها) في استمراريّة السلالة.عليها، بكل بساطة، أن تساعد أبناء العائلة- يؤدّي ذلك إلى انتشار المورثات بين الأفراد في عائلة الزرازير، بما فيها المورثات الّتي تجعلها تسلك هذا السلوك. 

هناك احتمال آخر. قد تقوم الزرازير بردّ الجميل، بعد عام أو عامين، للزرزور الّذي ساهم في إطعام فراخها، عندما ينجب فراخًا خاصّته. كثرت الدلائل في السنين الأخيرة على وجود المساعدة المتبادلة لدى العديد من الحيوانات. تتبادل القردة الطعام وتنظيف الفروة فيما بينها، ويزن الشمبانزي الأمر جيدًا مع من يتقاسم الطعام المرغوب لدى عائلة الشمبانزي، اللحم مثلًا، ويفضّل إعطاءه لمن يراه أقرب أن يردّ له الجميل في المستقبل. توفّر الخفافيش مصّاصة الدماء وجبات الدم لأصدقائها الجائعين، خاصّةً إذا كان هؤلاء قد قدّموا لها مساعدة مشابهة في الماضي. حتّى الخُلدان تساعد من ساعدها. 

 قد تعود المساعدة المتبادلة بالفائدة على الطرفين، ويمكن الاطّلاع على كيفيّة تطوّر صفة ساعِد من يساعدك، وساعِد قريبك، فقد يساعدك لاحقًا. وطبعًا، لا تُناقض هاتان الفرضيّتان (في تفسير ظاهرة المساعدة المتبادلة) إحداهما الأخرى، وقد تكون كلاهما صحيحتَين. 

من الصعب للغاية، مع ذلك، دراسة وبحث المساعدة المتبادلة في الطبيعة. فلننظر مثلًا إلى الزرازير الأنيقة. يسهل كثيرًا فحص الفرضيّة بأنّ هذه العصافير تختصّ أقرباءَها بالمساعدة: نُجري فحصًا وراثيًّا لتحديد علاقة القرابة، ثمّ نقوم ببعض المشاهدات. يتوجّب على الباحثين، بالمقابل، من أجل الكشف عن المساعدة المتبادلة، توثيق جميع الأفراد من الزرازير الّذين يساعدون زوجًا معيّنًا، ثمّ الانتظار، ربّما بضع سنين، حتّى تُنجب الزرازير المُساعِدة ذريّة لها- ليروا هل يقدّم لها الزوجان المساعدة. يتطلّب ذلك زمنًا أطول والمزيد من المشاهدات.  

قد يكتشف الباحثون الّذين يبذلون مثل هذه الجهود وجود علاقات مخفيّة لدى العصافير- وهذا هو بالضبط ما كشف عنه الباحثون من الولايات المتّحدة الأمريكيّة وكينيا ونشروه في مقالة جديدة. تابع هؤلاء الباحثون تسع مجموعات من الزرازير في كينيا طوال عشرين سنة، أي أربعين موسمًا من التكاثر، إذ تتكاثر العصافير مرّتين كلّ عام. صحيح أنّ الزرازير أكثرت من مساعدة أبناء عائلتها، إلّا أنّها، وفقًا لما كشفت عنه البيانات الّتي جمعها الباحثون، ساعدت أيضًا أفرادًا كانوا قد قدّموا لها المساعدة في الماضي، دون علاقة بأيّة صلة قرابة.

صرّح دستين روبنشتاين (Rubenstein)، الباحث الكبير الّذي وقّع على المقالة، لموقع ScienceAlert: “هذا هو أوّل دليل حقيقيّ على مثل هذا التبادل لدى العصافير، وهو من أقوى الدلائل على وجود المساعدة المتبادلة لدى غير البشر”.

الدوافع المختلفة للتعاون المتبادل

شملت المشاهدات الّتي اعتمدت عليها الدراسة 410 أعشاش كان فيها 563 مُساعِدًا. تبادَلَ 142 زوجًا من الزرازير المساعدة، وتبادل قسم منها الأدوار عدّة مرّات- أشغل أحد الزوجين دور الوالد وأشغل الآخر دور المساعد مرّةً، ثمّ انقلبت الأدوار. شملت أزواج الزرازير ذكرًا وأنثى، أو ذكرين، أو أنثيين أيضًا. 

قال روبنشتاين مفسّرًا: “نلاحظ وجود علاقات اجتماعيّة متبادلة: إذا ساعدتك الآن، قد تساعدني فيما بعد. يربح كلاهما من هذه العلاقة طويلة الأمد، ويمكن اعتبارها علاقة صداقة، إذ إنّها لا تقتصر على الأفراد الّذين تربطهم صلة القرابة”. 

يبقى قسم من أفراد الزرازير، الذكور والإناث، عند بلوغهم، في كنف العائلة، وقد يترك القسم الآخر العائلة وينضمّ لمجموعة أخرى. يوجد، بطبيعة الحال، أقرباء كثيرون بين الأفراد الّذين يمكثون في كنف العائلة الّتي ترعرعوا فيها، وقد شوهد هؤلاء الأفراد وهم يساعدون الأقرباء في أعشاشهم مرارًا وتكرارًا. أمّا الأفراد الّذين هجروا عائلاتهم وانضمّوا لِعائلة أخرى فقد “أقاموا أواصر اجتماعيّة وطيدة مع أفراد آخرين لا تربطهم بهم صلة قرابة، وساعدوا بعضهم البعض على طول الطريق”، قال روبنشتاين وتابعَ: “لم يكن هناك أقرباء لِلعصافير المهاجرة لِيساعدوهم، الأمر الّذي جعلهم يقيمون علاقات اجتماعيّة جديدة عند انضمامهم للمجموعة”.  

تدلّ الدراسة على أنّ كلتا الفرضيّتين، بشأن تفسير المساعدة المتبادلة لدى الزرازير، صحيح: تنجم المساعدة الّتي تقدّمها الزرازير للوالدين عن علاقة القرابة، وعن العلاقات المتبادلة أيضًا. لخّص روبنشتاين تصريحاته قائلًا: “تشير الدراسة، على ما أعتقد، إلى تعدّد الأسباب الّتي تجعل العصافير تتعاون فيما بينها. تحتاج الزرازير إلى من يساعدها في تربية أبنائها، فإمّا أن تلجأ إلى تعبئة أفراد العائلة لهذه المهمّة، فهم يكسبون من هذه المساعدة لأنّهم يتقاسمون جزءًا من المورثات مع الفراخ، أو أنّها تستدعي أفرادًا من خارج نطاق العائلة عن طريق إقامة علاقات اجتماعيّة طويلة الأمد”.  

هل سيتمّ اكتشاف وجود علاقات من المساعدة المتبادلة لدى المزيد من أنواع العصافير وغيرها من الحيوانات؟ يبدو أنّ ذلك ليس بعيدًا. يؤكّد الباحثون أهميّة الدراسات طويلة المدى، والّتي تتيح اكتشاف مثل هذه العلاقات. قد تساهم زيادة معرفتنا للعلاقات المتبادلة لدى الحيوانات المختلفة في زيادة فهمنا لكيفيّة تطوّر هذه الصفة، صفة القدرة على إقامة العلاقات الاجتماعيّة المفيدة، والمحافظة عليها لمدّة طويلة- وقد نتعرّف بذلك على مصدر الصداقة البشريّة.