يُعَدّ المجال العلميّ مجالًا دقيقًا، حتّى أنّه يهتمّ في دراسة التّفاصيل الصّغيرة، كالفضلات والبراز، للحصول على أكبر قدر ممكنٍ من المعلومات. خلَّفت الدّيناصورات الّتي جابت أنحاء المعمورة في العصر التّرياسيّ حتّى نهاية العصر الطّباشيريّ العديد من الفضلات الّتي تحوّلت إلى أحفوريّات عند توفّر الظّروف البيئيّة المناسبة. فماذا يمكن أن نتعلّم من براز هذه الكائنات الّتي سيطرت على كوكب الأرض لما يقارب 165 مليون سنة؟ تُسلِّط دراسة جديدة، نُشِرت في مجلة Nature العلميّة الضّوء على هذا الجانب، حيث استندت على أكثر من 500 عيّنة فضلات متحجّرة مصدرها أنظمة هضميّة لديناصورات. إذ يهدف هذا البحث إلى فحص بقايا الموادّ الغذائيّة المحفوظة داخل هذه الفضلات المتحجّرة، من أجل فهم الآليّات البيولوجيّة وسلوكيّات البقاء الّتي مكّنت تلك الزّواحف العملاقة من فرض هيمنتها على كوكب الأرض لملايين السّنين.
العالم كما لو كان جزءًا من “الحديقة الجوراسيّة”
بدت الحياة على وجه الأرض وكأنّها نسخة طبيعيّة هائلة من فيلم “الحديقة الجوراسيّة” Jurassic Park، ولكن دون أقفاص أمان تحجز الكائنات العملاقة، والكثير الكثير من الدّراما الطّبيعيّة. حينها، كانت الدّيناصورات تجوب أرجاء المعمورة، مخلِّفة آثار أقدامها الضّخمة على سطح الأرض، وكأنّها تترك توقيع حضورها الأبديّ، تمامًا كما يخلِّد كبار النّجوم بصماتهم في “ممشى المشاهير” في هوليوود. في “طريق الدّيناصورات السّريع” في بريطانيا —محجر يقع في جنوب البلاد حيث اكتُشفت مئات آثار الأقدام— يمكن رؤية بصمات عملاقة بحجم حوض سباحة للأطفال، من بينها آثار تعود للبراكيصوروس (Brachiosaurus)، أحد أكبر الدّيناصورات، والّذي كان طوله يتجاوز الثّلاثين مترًا.
بالمقابل، تُبرِز آثار الأقدام الصّغيرة للكومبسوجناثوس، الّذي يُقدَّر حجمه بما يقارب حجم الدّجاجة، مشهدًا يوحي بكائن يركض على أقدام دقيقة. وإذا تخيّلنا مشهدًا للبحيْرات الضّحلة في ذلك الزّمن البعيد، لظهرت لنا صورة السّبينوصوروس (Spinosaurus) الذي تميّز ببنيةٍ ظهريّةٍ أشبه بالشِّراع، والّذي يجمع بين سِمات التّمساح والشِّراع، مشغولًا بالصّيد على ضفاف هذه البحيرات. وفي السّهول المفتوحة، كان مفترسون مثل الفيلوسيرابتور (Velociraptor) يطاردون طرائدهم بسرعات مذهلة. كما وتميّزت بعض الأنواع بريشها الملوّن الجذّاب، ربما كانت لتذكّرنا بالطّيور الحديثة، وأخرى، مثل الأنكيلوصوروس (Ankylosaurus) تسلّحت بدروعها وأشواكها، الّتي استخدمتها كوسائل حماية. لم تكن الدّيناصورات حينها، مجرد كائنات تملأ الطّبيعة بأشكالها وأحجامها وألوانها المتنوّعة، مع تكيّفات مذهلة لكلّ زاوية من العالم القديم؛ بل قامت أيضًا بهندسةالطّبيعة من خلال إعادة تشكيل النّظام البيئيّ بأسره، مؤثّرةً على كامل السّلسلة الغذائيّة، والّتي انعكس تأثيرها بدورها على الطّبيعة بأكملها.
لطالما حاول البشر فهم سُبل نجاح هذه الدّيناصورات بالبقاء والانتشار الواسع على كوكب الأرض، مع هذا التّنوّع الهائل. وعلى مدار السّنوات، طُرِحت العديد من التّفسيرات، من بينها قدرتها على العيش في بيئات طبيعيّة متنوّعة، أو أنّ ظروف المناخ كانت ملائمة لازدهارها، أو أنّ اجتماع عدّة عوامل داعمة معًا أسهم في نجاحها.
ومع ذلك، لم تتمكّن أيّ من هذه الفرضيّات من تقديم تفسير دقيق وكامل لهذه الظّاهرة.

سمحت الفضلات بإعادة بناء شبكة غذائيّة غنيّة. عرْضٌ لتشكيلة متنوّعة من الكوبروليتات | Peter Menzel / Science Photo Library
تحليل النّتائج
ووفقًا لذلك، تُرِك الباحثون أمام خيار واحد وأخير، دراسة الأدلة الأكثر صلابة، وهي البروماليتات (Bromalites)، أي الأحافير النّاتجة عن محتوى الجهاز الهضميّ. شملت العيّنات الّتي قاموا بفحصها أنواعًا مختلفة من هذه الأحافير، منها الكوبروليتات (Coprolites)— براز الدّيناصورات المتحجّر، الكولوليتات (Cololites)— محتويات أمعاء متحجّرة، والريغورغيتاليتات (Regurgitalites)— محتويات معدة تمّ تقيّؤها وتحجّرت، بالإضافة إلى أحافير أخرى تدلّ بشكلٍ مباشر على غذاء الدّيناصورات، مثل عظام تحمل علامات افتراس أو قضم.
استُخدِمت تقنيّات بحثيّة متقدّمة أثناء الدّراسة، من بينها التّصوير المقطعيّ الدّقيق بالأشعّة السّينيّة المعزّزة بالسّنكروترون— وهي تقنيّة تصوير مبتكرة، تعتمد على أشعّة سينيّة عالية الطّاقة، تُنتَج في مسرّع جسيمات (السنكروترون)— وذلك لفحص بُنية العيّنات، وإعادة بناء هيكل الشّبكات الغذائيّة في خمسة مواقع أحفوريّة في بولندا، والّتي قُدِّر تاريخها إلى الفترة ما بين نهاية العصر التّرياسيّ وبداية العصر الجوراسيّ، أي قبل نحو 250 إلى 200 مليون سنة. يرى الباحثون، أنّ نتائج هذه الدّراسة قد تُسفِر عن نتائج أكثر عُمقًا ووضوحًا من المتوقّع، بِدءًا من كشف رؤى جديدة حول كيفيّة مساهمة الظّروف البيئيّة في ترسيخ هيمنة الدّيناصورات على كوكب الأرض، وصولًا إلى تفسير ظواهر عظيمة كالانقراض الجماعيّ في نهاية العصر الطّباشيريّ.
ركّزت الدّراسة بشكلٍ خاصّ على فهم التّطوّر المبكّر للدّيناصورات، والتّحوّلات البيئيّة الكُبرى الّتي رافقته.
كما وقد مرّت العيّنات بسلسلةٍ من الفحوصات التّحليليّة، كالمجهر الإلكترونيّ، المطيافيّة الضّوئيّة، والكروماتوغرافيا، بهدف الكشف عن موادّ عضويّة ومعدنيّة. قد ساهمت مقارنة العيّنات المختلفة بالكيوتيكولات النّباتية —وهي طبقات دهنيّة تُغلِّف أجزاء معيّنة من النّباتات— في إعادة بناء النّظام الغذائيّ للدّيناصورات آكلةِ الأعشاب؛ بينما كشفت التّحاليل العضويّة والكيميائيّة تفاصيل إضافية عن بيئة الغذاء وعن العمليّات الّتي أدّت إلى تحوّله إلى موادّ معدنيّة. في حين كشفت العيّنات المكوّنة من بقايا نباتات وأسماك وفرائس صغيرة وكبيرة، عن تنوّع حيويّ وغذائيّ هائل، ساهم بدوره بتشكيل شبكات غذائيّة معقّدة.

مجموعة مختارة من الأحافير الّتي تمّ تحليلها في الدّراسة، ومن بينها: بروماليت كبير يحتوي على بقايا زعنفة وقشور سمكة (a)؛ بروماليت يحتوي على خنافس شبه مكتملة (d)؛ كوبروليت يحتوي على بقايا أسماك (g) | عن دراسة Qvarnström et al., 2024
تغذية غنيّة ومتنوّعة— حُفِظَت بشكلٍ استثنائيّ
كشف الباحثون من خلال دراسة مُدخَلات الجهاز الهضميّ المختلفة للدّيناصورات بقايا غذاء متنوّعة، تضمّنت عظام رباعيّات الأطراف، أسماك، نباتات، مفصليّات الأرجل (بما في ذلك الخنافس)، إلى جانب موادّ عضويّة محفوظة جيّدًا؛ ممّا يدلّ على حدوث عمليّات تمعْدُن سريعة تأثّرت بنشاطٍ بكتيريّ. ساهمت هذه العمليّات في تصلّب سريع للأنسجة، وبالتّالي الحفاظ على محتويات المعدة بشكلٍ استثنائيّ. ممّا يعني أنّ هذه الأحافير تتيح فرصة فريدة للتّعرّف بعمق على أنظمة التّغذية وعادات تناول الطّعام لدى الدّيناصورات، بل وحتّى على البيئة الإيكولوجيّة الّتي عاشوا فيها.
تُتيح هذه النّتائج إعادة تصوّر شبكة غذائيّة غنيّة، فقد كانت الثّيروبودات (Theropods) الكبرى –الّتي تمّ التّعرّف على وجودها من خلال آثار الأقدام ومحتويات الأمعاء– تتغذّى على عدة فرائس مختلفة، من الأسماك ورباعيّات الأطراف الصّغيرة، وصولًا إلى كائنات أكبر بكثير، مثل الزّوروبودومورفيّات (أشباه الصّوروبوديَّات) (Sauropodomorphs) والدّيكينودونتيّات (Dicynodontia). إلى جانب الثّيروبودات، عاشت مفترِسات أخرى كالبولونوزوخوس (Polonosuchus) مثلًا، الّذي كما يبدو تربّعَ على عرش الدّيناصورات المفترِسة. أمّا بالنّسبة للسّيليزاوروس (Silesaurus)، والّذي كان يُعتقَد سابقًا أنّه يتّبِع نظامًا نباتيًّا بحتًا، فقد كشفت الدّراسة عن وجود بقايا حشرات محفوظة في بروماليتات صغيرة تعود له، ما يشير إلى نمطٍ غذائيٍّ يعتمد على مفصليّات الأرجل، ممّا استدعى إعادة تصنيفه ككائن مفترِس. كما أنّ الكروكوديلومورفيّات (Crocodylomorphs)، أسلاف التّماسيح البعيدين، كانت تتغذّى بالفعل على الأسماك ورباعيّات الأطراف الصّغيرة في تلك الحقبة.

الثّيروبودات الكبرى كانت تتغذّى على طيف متنوّع من الفرائس. الثّيروبودات تحيط بديناصور نباتيّ من فصيلة الزّوروبودومورفيّات | المصدر: Mark P. Witton / Science Photo Library
قدرة فريدة على التّكيّف
تُشير الصّورة العامّة لهذه الدّراسة، أنّ الدّيناصورات الّتي تمكّنت من النّجاة عبر عصور متعاقبة، كانت الأنواع الأقوى والأكثر قدرة على التّكيّف. حيث نجحت هذه المخلوقات في التّكيّف مع أنماط غذائيّة مختلفة، إذ استطاعت الاستفادة من الموارد الغذائيّة المتاحة بأقصى قدر ممكن. وقد منحتها هذه القدرة ميزة بيئيّة حاسمة، مكّنتها من الصّمود أمام التّغيّرات البيئيّة المختلفة؛ بينما لم تنجح أنواع أخرى أكثر انتقائية بالطّعام بالصّمود والتّكيّف، وبذلك انقرضت تدريجيًّا مع مرور الزّمن.
في أعقاب نشر نتائج هذه الدّراسة واستنتاجاتها، الّتي استندت على 30 مليون سنة من هيمنة الدّيناصورات على كوكب الأرض مقارنةً بكائنات حيّة أخرى عاشت في الحقبة نفسها، صرّح كفارنستروم، في مقابلة مع الشّبكة الوطنيّة للإذاعة العامّة في الولايات المتّحدة (NPR)، عن نِيّته في مواصلة التّعمّق بموضوع الكوبروليتات لبقيّة مسيرته المهنيّة. “أعتقد أنّ هذا المجال ساحر، ولكن يعاني من قلّة التّقدير في علم الأحافير”.
كشفت بقايا البراز المتحجِّر عن أسرار نجاح الدّيناصورات في الهيمنة على الأرض لعصور عديدة، فقد تبيّن أنّ هذا النّجاح نبع من مزيج من التّغيّرات البيئيّة والمناخيّة العالميّة، مثل الانتقال من ظروف جافّة إلى ظروف أكثر رطوبة في أواخر العصر الثّلاثيّ (التّرياسيّ) وبداية العصر الجوراسيّ، والّتي أدّت بدورها إلى ازدهار الموارد الغذائيّة وتنوّعها. إلى جانب هذه التّحوّلات البيئيّة، كانت قدرة الدّيناصورات العظيمة على التّكيّف واستغلال مصادر غذائيّة جديدة ومختلفة من أهمّ مفاتيح بقائها. وقد ساهم الانقراض الجماعيّ للثّيروبودات المنافِسة- الأقلّ قدرةً على التّكيّف، في تعزيز هذا التّفوّق البيئي؛ ممّا أفسح المجال أمام الدّيناصورات المهيمنة لتتوسّع تدريجيًّا وتغزو مختلف البيئات.
لذلك، في المرّة القادمة الّتي تُفكِّرون فيها بما ستأكلونه، تذكّروا أنّ الدّيناصورات لم تُهيمن على العالم لأنّها كانت الأقوى فقط؛ بل لأنّها كانت الأكثر مرونة وقدرة على تناول كلّ ما توفّر لها.