بقبضة حديديّة وذراع جديدة
قام العلماء بدراسة آليّة تجدّد الأعضاء المبتورة في نجم البحر الثعبانيّ، ووجدوا أنّ هذه الآليّة قد نشأت، على الأرجح، قبل مئات الملايين من السنين، لدى سلف مشترك للعديد من الأنواع المختلفة
التّجدّد ( Regeneration ) هي قدرة الجسم الحيّ على إعادة إنماء أعضائه وأنسجته من جديد. تلقى هذه الفكرة اهتمامًا متزايدًا في الآونة الأخيرة، فما كان مجرّد فكرة في أفلام الأبطال الخارقين وولفرين وديدبول، تحوّل اليوم إلي مجال طبّيّ قائم بحدّ ذاته يُعرف بالطّبّ التّجديديّ (Regenerative medicine) الّذي يبحث في كيفيّة تطوّر وتعافي الأعضاء المصابة لدى الكائنات الحيّة المختلفة، بما في ذلك البشر.
تمتلك العديد من الكائنات في المملكة الحيوانيّة قدرة فريدة على تجديد الأجزاء المفقودة من أجسامها، ومن بينها نجم البحر الثّعبانيّ (brittle star)، وهو كائنٌ بحريٌّ صغير ينتمي إلى شعبة شوكيّات الجلد، وهو قريب من نجم البحر، حيث يمتلك قدرة مذهلة على إعادة نموّ أذرعه في غضون أسابيع معدودة. لطالما حيّرت هذه الظّاهرة أوساط العلماء والباحثين، وقد بدأوا مؤخّرًا بكشف الأحجيات الجينيّة المتعلّقة بها.
نجم البحر الثعبانيّ قادر على إنماء أذرعه من جديد خلال بضعة أسابيع فقط. نجم بحر ثعبانيّ بذراع مبتورة | Wim Van Egmond / Science Photo Library
ما هو العامل المشترك بين السّمندر، قنفذ البحر ونجم البحر الثّعبانيّ؟
نشر مجموعة من الباحثين مؤخّرًا التّسلسل الجينيّ الخاصّ بنجم البحر الثّعبانيّ وآليّة تجدّد الأعضاء الخاصّة به. وقاموا بمقارنة شيفرته الوراثيّة الخاصّة مع الشّيفرة الجينيّة لحيوانات أخرى قادرة على تجديد أعضائها. أظهرت النّتائج تشابهًا كبيرًا في البنية الجينيّة لهذه الكائنات، إذ تبيّن أنّ هذا الكائن البحريّ الصّغير يعتمد آليّة تجدّد للأنسجة مماثلة لتلك المستخدمة لدى أنواع أخرى بعيدة من النّاحيّة التّطوريّة، مثل الأكسولوتل (Axolotl – السَّمَنْدل المكسيكي) وقنفذ البحر.
تشير هذه النّتائج إلى أنّ آليّة التّجدّد الجينيّة، وبالتّالي القدرة على إنبات الأعضاء من جديد، لم تنشأ بشكل مستقلّ لدى كلّ نوع على حدة، إنّما ورثتها جميع هذه الكائنات عن سلف مشترك. لذلك، تُعدّ هذه القدرة صفة قديمة متوارثة ومشتركة بين أنواع متعدّدة، انتقلت عبر الأجيال منذ مئات الملايين من السّنين.
أُجْريت العديد من الدّراسات والتّجارب لإثبات التّقارب بين آليّات التّجدّد لدى الأنواع المختلفة. في البداية، تمّ فحص تسلسل الحمض النّوويّ (DNA) لنجم البحر الثّعبانيّ، ومن ثمّ مقارنته بالحمض النّوويّ لكائنات أخرى تمتلك القدرة ذاتها على تجديد الأعضاء، بهدف رصد الجينات المشتركة ودراسة كيفيّة الحفاظ عليها عبر مسار التّطوّر. بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال تقنيّة تسلسل الحمض النّوويّ الرّيبي (RNA)، تمّت دراسة الجينات المشاركة في مراحل التّجدّد المختلفة لنجم البحر الثّعبانيّ، إذ تتيح هذه التّقنيّة إمكانيّة قياس مستويات ال RNA ، أي تحديد عدد جزيئات الـ RNA لكلّ جين في الخلايا في لحظة معيّنة، ممّا يساعد في تقدير نشاط هذه الجينات. فكلّما زادت كمّيّة الـ RNA لجين معيّن، زاد نشاطه وزادت كمّيّة البروتينات الّتي يتمّ إنتاجها بواسطته. ومن خلال مقارنة مستويات الـ RNA في مراحل مختلفة من عمليّة التّجدّد، تمكّن الباحثون من تحديد الجينات النّشطة أثناء العمليّة وفي أيّة مرحلة يحدث هذا النّشاط.
كما وتمّت مقارنة وظائف الجينات النّشطة خلال عمليّة التّجدّد لدى نجم البحر الثّعبانيّ مع نظيراتها في كائنات حيّة أخرى، بهدف التّحقّق ممّا إذا كانت هذه الجينات تشارك في عمليّات التّجدّد الأساسيّة مثل انقسام الخلايا، النّموّ، والتّمايز، وهي العمليّة الّتي تكتسب فيها الخلايا وظائف متخصّصة داخل الجسم.
عبرَ استخدام علم الوراثة العرقيّ أو الفيلوجيني، المعنيّ بدراسة التّقارب الجينيّ بين الأنواع الحيّة، تمّ إنشاء أشجار تطوّريّة توضّح مدى التّقارب بين الأنواع، وتدرس العلاقات التّطوّريّة بين الجينات المرتبطة بعمليّة التّجدّد. بالاضافة إلى ذلك، وفي إطار تجارب محكمة الرّقابة، تمّ بتر أذرع نجم البحر الثّعبانيّ ومن ثم مقارنة آليّات التّجدّد الخاصّة به بآليّات التّجدّد لدى كائنات أخرى، من خلال فحص العمليّات البيولوجيّة والجينيّة الّتي تلعب دورًا في مراحل التّجدّد المختلفة.
قام الباحثون بمقارنة وظائف الجينات النّشطة لدى نجم البحر الثّعبانيّ بوظائفها في كائنات أخرى، للتّحقق ممّا إذا كانت الجينات نفسها تشارك في عمليّات انقسام الخلايا أثناء التّجدّد، وفي النّموّ والتّمايز. مجموعات مختلفة من الكائنات الحيّة، مدى قربها من نجم البحر الثّعبانيّ، والجينات المشتركة بينها | مقتبس من المقال Parey et al., 2024
طريق التّجدّد من الصّدمة إلى إعادة النّموّ
تعتمد هذه الآليّة على ثلاث مراحل أساسيّة:
مرحلة التئام الجرح: عندما يفقد نجم البحر الثّعبانيّ إحدى أذرعه، يتمّ تنشيط جينات مسؤولة عن الاستجابة المناعيّة، ممّا يساعد في إغلاق الجرح وبدء مرحلة الشّفاء.
مرحلة التّكاثر الخلويّ (Proliferation): يتمّ تنشيط الجينات المسؤولة عن انقسام الخلايا وتكاثرها، حيث تعمل هذه الجينات على تسريع عمليّة الانقسام الخلويّ وبالتّالي إعادة تكوين الأنسجة المتضرّرة.
مرحلة التّمايز الخلويّ: تتحوّل الخلايا الجديدة إلى خلايا متخصّصة تعمل على تشكيل أذرع جديدة قادرة على أداء وظيفتها، حيث يتمّ توجيه هذه العمليّة بواسطة عوامل النّسخ وعوامل النّموّ العصبيّ.
يشهد مجال الطّبّ التّجديديّ تطوّرًا متسارعًا، حيث تُكثَّف الأبحاث والدّراسات لتطوير تقنيّات وأساليب تتيح إصلاح أو استبدال الأنسجة والأعضاء التّالفة في جسم الإنسان، من خلال توظيف العديد من التّقنيّات، مثل استخدام الخلايا الجذعيّة، هندسة الأنسجة، والتّقنيّات الجينيّة، الّتي تهدف إلى تعزيز قدرة الجسم على الشّفاء. أسهم هذا البحث في بناء صورة أكثر وضوحًا وعمقًا لآليّات التّجدّد، إذ من الممكن أن تسهم هذه النّتائج في تطوير الأدوات اللّازمة لتفعيل عمليّات تجدّد مماثلة لدى البشر، وتحسين قدرة الجسم على الشّفاء من الإصابات وتجديد الأنسجة التّالفة. ورغم أنّ هذا المجال لا يزال في طور التّطوّر، إلّا أنّه يحمل آمالًا كبيرة لتحقيق تقدّم نوعيّ في العلاجات الطّبّيّة المستقبليّة.