تُبذل جهود علميّة وهندسيّة كبيرة منذ سنين عديدة في تطوير الحواسيب الكموميّة، الّتي من المتوقّع أن تكون لها أفضليّات هامّة جدًّا في مجال الحسابات الهادفة لتطوير الموادّ المُحدثة، والأدوية الجديدة، وفهم أوسع نطاقًا للكون، وفي المستقبل الأبعد، إجراء العمليّات الرّياضيّة المعقّدة مثل فكّ الشِّفرات. صحيح أنّ تطوير الحاسوب الكموميّ جارٍ ويتقدّم سنويًّا بخطًى واسعة ومثيرة؛ إلّا أنَّ تحدّيات كثيرة تواجهه حتّى يصبح حاسوبًا صالحًا للاستخدام الفعليّ له أفضليّة جوهريّة على الحاسوب التّقليديّ. يمكن تقسيم هذه التّحدّيات إلى ثلاثة مجالات رئيسة: حساسيّة الحاسوب للضّوضاء، تصحيح الأخطاء وتطوير خوارزميّات مُلاءَمة (ما لن نتناوله في هذه المقالة).
ما هو الحاسوب الكموميّ
علينا تقديم شرح مختصر عن ماهيّة الحاسوب الكموميّ من أجل فهم التّحدّيات الّتي ذُكرت أعلاه. يمكن أن تتواجد وحدة (أو خليّة) المعلومات الأساسيّة في الحاسوب “العاديّ”، الّتي تُسمّى البِِت (أو البِتّة أو النّبضة) (bit)، في إحدى الحالتيْن المدعوّتيْن “صفر” و “واحد”. البِتّات، عادةً، هي عبارة عن دوائر كهربائيّة يجري بينها، أو لا يجري، تيّار كهربائيّ. نحن نتواصل مع الحاسوب بواسطة اللّغات الغنيّة الّتي طوّرها المهندسون بالاعتماد على هاتيْن الإمكانيّتَيْن، “الصفر” و “الواحد”: نعطي الحاسوب التّعليمات فيُجري الحسابات ونحصل على النّتائج. الكيوبِت في الحاسوب الكموميّ هو عبارة عن نظام فيزيائيّ يستبدل البِت الّذي في الحاسوب التّقليديّ. يمكن أن يتواجد الكيوبت هو الآخر بحالتي “الصّفر” و”الواحد”، لكن يمكنه أيضًا أن يتواجد ما بين هاتيْن الحالتيْن، أي في حالة مختلطة تُدعى التّراكب. يستطيع الحاسوب الكموميّ، بفضل حالة التّراكب هذه، إجراء الحسابات المعقّدة بسرعة فائقة: هناك أمثلة لحسابات تستغرق سنين طويلة فيما إذا أُجريت بالحاسوب التّقليديّ، بينما أتّمها الحاسوب الكموميّ خلال بضع ساعات فقط. إنّها أفضليّة بالغة الأهمّية خاصّةً للأبحاث والدّراسات الّتي تُجرى على منظومات ذات طابع كموميّ، مثل الجزيئات المعقّدة والموادّ المتطوّرة.

يمكن أن يتواجد الكيوبت هو الآخر بحالة “الصّفر” أو”الواحد”، لكن يمكنه أيضًا أن يتواجد ما بين هاتيْن الحالتيْن، أي في حالة مختلطة تُدعى التّراكب. رسم توضيحيّ لِلكيوبت في وضع التّراكب | Shutterstock, VectorMine
المشكلة الأولى الّتي تُواجه تطوير الحاسوب الكموميّ هي “الضّوضاء”، أي التّشويشات الخارجيّة: قد “تنهار” حالة التّراكب ذات الحساسيّة الكبيرة نتيجة لأيّ ردّ فعل متبادل بين الحاسوب وبين البيئة المحيطة به- تتغيّر حالة الجُسيْم الّذي يجري قياسه من الحالة البَينيّة “ما بين الصّفر والواحد” إلى حالة “الصّفر” أو حالة الـ “واحد”. إنّ تطوير منظومة كيوبِتات تتيح ردود فعل متبادلة بيننا وبينها -كي نستطيع التّحكّم بها- دون أن يُحدِث فيها أيُّ نشاط غير مرغوب فيه هو مهمّة بالغة التّعقيد من النّاحية الهندسيّة. تعمل المختبرات الكبيرة في العالم جاهدة على تطوير حواسيب ذات حساسيّة منخفضة للضّوضاء، إلّا أنّ ذلك يؤدّي إلى تقييد كبير لحجم الحاسوب: استطاعت شركة IBM، على سبيل المثال، والّتي تمتلك أحد المختبرات الأكثر تقدّمًا في العالم لِتطوير الحاسوب الكموميّ، تطوير حاسوب بلغت قدرته حوالي 1000 كيوبت؛ للمقارنة، توجد في ذاكرة عمل الهاتف الذّكيّ المتوسّط 8 جيجا- بايت، أي 64 مليار بِت من البِتّات التّقليديّة.

استطاعت شركة IBM، على سبيل المثال، تطوير حاسوب بلغت قدرته حوالي 1000 كيوبت. كوندور، حاسوب IBM الكموميّ | ويكيميديا، IBM Research
تصحيح الأخطاء
تتّضح أهمّيّة تصحيح الأخطاء في الحاسوب الكموميّ من خلال التّحدّيات التّكنولوجيّة في إنتاج حاسوب له حساسيّة منخفضة لِلضّوضاء من حوله، أي أن تكون ردود الفعل المتبادلة بينه وبين محيطه ردود عابرة فقط: يمكن بناء حاسوب فيه القليل من الأخطاء، وتطوير بروتوكول ذكيّ لتصحيحها، بدلًا من تصنيع حاسوب خالٍ من الضّوضاء والأخطاء. يجب أن يعمل الحاسوب الكموميّ القويّ جيّدًا على الوجهتيْن: أن تتكوّن فيه القليل من الأخطاء، وأن يصحّحها بصورة أذكى.
لا تقتصر أهمّيّة تصحيح الأخطاء على الحاسوب الكموميّ، بل لها أهمّيّة كبيرة في الحاسوب التّقليديّ أيضًا: لا يمكن أن نتيح لكلّ خطأ -والأخطاء تحدث دائمًا- أن يعرقل عمل الحاسوب كلّه. الآليّة الأساسيّة لتصحيح الأخطاء هي النّسخ أو التّكرار: يتمّ استخدام ثلاث بِتّات تُمثّل شارةً واحدة، تتواجد في الوضع “000” أو “111”. يمكن تصحيح الخطأ، في حالة تغيّر إحدى البتّات بالخطأ، بالاستعانة بِالبِتَّتيْن الأخرييْن، فنحمي أنفسنا من الخطأ المنفرد. هذه الآليّة لا تكفي في حال ازداد احتمال حدوث خطأيْن اثنيْن، إذ نحتاج عندها لحلٍّ أكثر تعقيدًا، وزيادة عدد البِتّات الّتي تمثّل الشّارة الواحدة. يعمل علماء الرّياضيّات وباحثو علوم الحاسوب على تطوير أساليب أكثر تطوّرًا لتصحيح الأخطاء، كي نستخدم الحواسيب استخدامًا أنيقًا ونقيًّا.
التّصحيح المُفسِد
من المحتمل أن ينهار التّراكب الّذي يعتمد عليه الحاسوب الكموميّ عند قياس وضع الكيوبِتّات، أي فحص احتمال حصول تغيير على أحدها، لأنّ القياس بحدّ ذاته يُجري ردود فعل متبادلة مع الكيوبِتّات. يجب أن تتجسّد في بروتوكولات تصحيح الأخطاء تعقيداتٌ رياضيّة إضافيّة لِتكون هذه البروتوكولات مُلاءَمة لِلحاسوب الكمومي بشكلٍ خاصّ، وذلك لتجنُّب انهيار التّراكب.إنّ تشخيص الأخطاء وتصحيحها مهمّة معقّدة، إذ قد تتكوّن أخطاء إضافيّة عند تنفيذها.
يتمثّل الإنجاز الجديد الّذي حقّقته شركة جوجل في النّجاح في إنتاج أداة لتشخيصٍ الأخطاء وتصحيحها أفضل من أيّ أداة رياضيّة أخرى وُجدت حتّى اليوم، وذلك بواسطة أداة من الذّكاء الاصطناعيّ، اسمها ألفا كيوبِت. تردُّد تَكوّن الأخطاء عند استخدام هذه الأداة الجديدة أقلّ بحوالي ستّة بالمائة من الأخطاء الّتي تتكوّن عند استخدام شبكات الموتر (التّنسور)- وهي أداة تصحيح الأخطاء الأكثر دقّة المستخدمة في الوقت الحاليّ. أضف إلى ذلك أنّه من المتوقّع أن تُتيح هذه الأداة الجديدة زيادة أُسِّيّة في سرعة تصحيح الأخطاء، وأن تزداد أكثر وأكثر مع تقدّم التّكنولوجيا.
الأفضليّة الأكثر تميّزًا للأداة الجديدة، بالمقارنة بالأساليب الأسرع (والأقلّ دقّة)، هي تقليل الأخطاء بنسبة 30 بالمائة، والمزيد من المزايا المستقبليّة.

يتمثّل الإنجاز الجديد الّذي حقّقته شركة جوجل في النّجاح في إنتاج أداة لتشخيص الأخطاء وتصحيحها أفضل من أيّ أداة رياضيّة أخرى وُجدت حتّى اليوم. شريحة كمبيوتر جوجل الكموميّ | Google
الشّكر والعرفان للذّكاء الاصطناعيّ
من الحريّ أن يُنسَب هذا الإنجاز، في الواقع، للذّكاء الاصطناعيّ أكثر ممّا هو للتّكنولوجيا الكموميّة، فقد جرى تحليل الأخطاء بواسطة الذّكاء الاصطناعيّ، وليس عبر فهم عميق للرّياضيّات الّتي تقف وراء الحاسوب الكموميّ. تعتمد الأداة، طبعًا، على فهمٍ ومعرفةٍ مسبقَيْن لِلحواسيب الكموميّة؛ إلّا أنّ شقّ الطّريق الفريد هذا هو شعبة أخرى من قائمة طويلة من الإنجازات الّتي أُتيحت عن طريق الذّكاء الاصطناعيّ الّذي يعتمد على الحوسبة التّقليديّة، ومنها أدوات أخرى تابعة لجوجل ذات بادئة ألفا، مثل ألفا- غو، وهي أداة للألعاب اشترتها غوغل، أو ألفا- بولد، وهي أداة لحساب نتائج طيّ الزّلاليّات (البروتينات) وتنبّئها. توقدُ هذه الإنجازات الهامّة الأمل بأن يتيح لنا دمجها في عالم الحوسبة التّقليديّة إلى جانب التّكنولوجيا الكموميّة، تصدُّر واجهة العلوم واستغلال الموارد والأدوات المتوفّرة اليوم استغلالًا صحيحًا.
يُشكّل الدّمج بين تحسين تكنولوجيا الكيوبِتّات بعينها وبين حساسيّة أقلّ للضّوضاء خطوة أخرى في الطّريق نحو إنتاج حاسوب كموميّ صالح للاستخدام، قادرعلى القيام بحسابات معقّدة ويقودنا نحو شقّ الطّرق العلميّة. لا بدّ أن تتحسّن أدوات الذّكاء الاصطناعيّ بذاتها مع تقدّم تكنولوجيا الحواسيب الكموميّة وعتادها (مكوِّناتها المادّيّة)، وحصول هذه الأدوات على معلومات محسّنة تتعلّم منها وتتدرّب عليها. من المتوقّع إذًا أن تتمخّض المزيد من الإنجازات عن هذا الإنجاز الجديد، وأن تتسارع وتيرة التّقدّم نحو الحاسوب الكموميّ المرجوّ.