فرضت علينا جائحة فيروس كورونا تغييرَ بعض أساليب تواصلنا مع الآخرين. خلال ذروتها، كانت المحادثات مع الأقارب والأصدقاء، الدّروس المدرسيّة واجتماعات العمل عبر الوسائط الرّقميّة بمكالمات فيديو. حتّى بعد انحسار الوباء، استمرّ استعمال اجتماعات الفيديو بشكل أكبر ممّا كان عليه في الماضي. بالتّالي، برزت ظاهرة سُميت “إرهاق زووم” (Zoom fatigue)، وهي شعور بالإرهاق المتزايد بعد مكالمات الفيديو – ممّا دفع الباحثين إلى دراسة أنماط نشاط الدّماغ أثناء الاتّصال الافتراضيّ، حتّى قبل تأسيس بحث حقيقيّ في هذا المجال، طُرِحت فرضيّات حول أسباب الظّاهرة؛ تشمل هذه الفرضيّات اضطراب التّزامن الموجود بشكل طبيعيّ في التّواصل الوجاهيّ، النّاتج عن تأخُّر الاستجابة الّذي يؤثِّر على الإيقاع الطّبيعيّ للمحادثة. بالإضافةِ إلى ذلك، يؤدّي غياب الإشارات غير اللّفظيّة، مثل تعابير الوجه وإيماءات الجسم، إلى صعوبة في فهم مشاعر الطّرف الآخر بوضوح.

عند التّفاعل مع الآخرين، نميلُ أحيانًا إلى تكييف حركات أجسادنا، تعابير وجوهنا أو إيماءاتنا معهم. على سبيل المثال، عندما يبتسم شخصٌ ما، غالبًا ما نردّ عليه بابتسامة. بخلاف التّواصل الافتراضيّ، فإنّ نشاط الدّماغ يتناسق لدى طرفَي المحادثة أثناء التّواصل الوجاهيّ. في بداية الجائِحة، افترض بعض الباحثين أنّ اضطراب التَّزامن الدّماغيّ في الاجتماعات الافتراضيّة، قد يعود إلى افتقارها للتّواصل البصريّ، الصّوت، إيماءات الجسم، اللّمس وحتّى الإشارات البيولوجيّة، مثل الرّوائح – والّتي تساهم جميعها في تعزيز مزامنة الدّماغ. إذا كان هناك بالفعل قدر أقلّ من التّزامن العقليّ في الاجتماعات الافتراضيّة، فهذا أمر مهمّ – لأنّ هذا التّزامن يعزّز الرّوابط الاجتماعيّة، ويؤثّر على قدرتنا على إنشاء علاقات ذات معنى.


فرضت علينا جائِحة فيروس كورونا تغيير بعض أساليب تواصلنا مع الآخرين. شاشة تطبيق “زووم”| Shutterstock, DANIEL CONSTANTE

غير متزامن بشكل متشابه

اليوم، وبعد مرور خمس سنوات تقريبًا على بداية الجائحة، تراكمت أدلّة تشير إلى اختلاف نشاط الدّماغ أثناء التّواصل عن بُعد، مقارنةً بالتّواصل المباشِر وجهًا لوجه. في نيسان 2023، نُشرت دراسة قام فيها المشاركون بأداء مهام في أزواج، بعضها من خلال لقاءات وجاهيّة، وأُخرى عن بُعد. خلال الدّراسة، وُثق نشاط أدمغة المشاركين باستخدام تقنيّة التّحليل الطّيفيّ الوظيفيّ للأشعَّة تحت الحمراء القريبة (Functional Near Infrared Spectroscopy، وباختصارfNIRS)، وهي تقنيّة تصوير تقيس التّغييرات في مستويات الأوكسجين في القشرة المخّيّة، مما يعكس التّغييرات في مستويات نشاط مناطق معيّنة من الدّماغ. فُحصت هذه الصّور عند لقاء المشاركين باتّصال فيديو، ثمّ أجابوا عن استبانات لتقييم تجربتهم الذّاتيّة، صفاتهم الشّخصيّة، إبداعهم ومستوى إلمامهم بالتّواصل الافتراضيّ.

أظهرت نتائج الدراسة انخفاضًا في تبادل الحديث بين المشاركين خلال اللّقاءات الافتراضيّة، ممّا قد يشير إلى انخفاض في انسياب المحادثة – وهو عنصر مهمّ في التّواصل الاجتماعيّ الفعّال. كما وجد الباحثون علاقة بين ارتفاع

مستوى نشاط المناطق الأماميّة اليُمنى من الدّماغ، وانخفاض تبادل الحديث أثناء مكالمات الفيديو. كما ارتبط انخفاض تبادل الحديث بانخفاض التّعاون بين المشاركين، وانخفاض الأداء في المهام الّتي أُختبرت في الدّراسة. بالأساس، كان الهدف من هذه المهام هو فحص القدرة على حلّ المشكلات، التّفكير الإبداعيّ والقدرات الاجتماعيّة والعاطفية. بشكل عام، لوحظ انخفاض في أنماط تزامن الدّماغ المتعلّقة بالتّعاون والسّلوك الاجتماعيّ في الاجتماعات الافتراضيّة.


خلال اللّقاءات الافتراضيّة، انخفض تبادل الحديث بين المشاركين، ممّا قد يُشير إلى انخفاض في انسياب المحادثة | Shutterstock, Andrey_Popov

انظروا إلى عينيَّ

بشكل مشابِه، فُحصت دراسة أخرى تجاه نظرات المشاركين وحجم حدقة العين، بواسطة تتبُّع حركة العين، بالإضافة إلى أنماط نشاط الدّماغ. أظهرت النّتائج أنّ المشاركين في اللّقاءات الوجاهيّة أمضوا وقتًا أطول في النّظر إلى وجه شريكهم. بالإضافة إلى ذلك، كان قطر حدقة العين لديهم أكبر، ممّا يشير إلى تيقُّظ أعلى. أمّا فيما يخصّ أنماط نشاط الدّماغ، فقد لوحظت زيادة في الموجات الدّماغيّة البطيئة – والّتي ترتبط، من بين أمور أخرى، بمعالجة تعابير الوجه. كما وجد الباحثون اختلافًا في نشاط المسارات العصبيّة في نوعَي التّواصُل، وأنّ مستويات تزامُن الدّماغ في مناطق معيّنة من الدّماغ كانت أعلى لدى الأزواج الّذين التقوا وجهًا لوجه.

استنتج الباحثون أنّه في التّواصل الافتراضيّ، يقلّ النّشاط العصبيّ في المسارات المرتبطة بالمعالجة الاجتماعيّة، واقترحوا أنّ الإشارات الاجتماعيّة الضّروريّة، مثل تعابير الوجه وإيماءات الجسم، لا تُنقَل بنفس الطّريقة عند توجيه التّواصل الاجتماعيّ. قد يُعزى ذلك إلى عدّة عوامل، مثل عدم القدرة على إجراء اتّصال بصريّ مباشر أثناء مكالمة الفيديو.


تغيير إضافيّ أثناء جائِحة فيروس الكورونا تمثّل بالتّعليم عن بُعد. تلميذ يتعلّم أمام الحاسوب | Shutterstock, Maria Symchych

التّعليم عن بُعد

أحد التّغييرات البارزة الأخرى خلال جائحة فيروس كورونا هو الانتقال للتّعلّم عن بُعد، الأمر الّذي أثار العديد من التّساؤلات حول جودة التّعلّم على المنصّات عبر الإنترنت. في دراسة نُشِرت قبل عامَيْن تقريبًا، أجرى باحثون من معهد التّخنيون مقارنةً بين جودة التّعلّم في الفصول الدّراسيّة وجهًا لوجه مع الفصول الدّراسيّة عبر الإنترنت. وتضمَّنت الدّراسة درسًا قصيرًا مدّته 15 دقيقةً، وفي نهايته طُرح على الطّلّاب خمسة أسئلة فهم. كذلك، سجّل الباحثون نشاطَ الدّماغ للمعلّم والطّلّاب باستخدام تخطيط كهربيّة الدّماغ (EEG).

أظهرت النّتائج أنّ التّعلّم وجهًا لوجه يرتبط بارتفاع في مستوى الفهم، وتزامن الدّماغ بين المعلّم والطّلّاب. مع ذلك، فإنّ حجم عيّنة البحث الصّغيرة قد حدَّ من إمكانيّة إجراء تحليل إحصائيّ للنّتائج، ممّا يستدعي إجراء دراسات إضافيّة على مجموعات أكبر لتعزيز النّتائج. تُشير هذه النّتائج إلى أنّ الطّلّاب الّذين يتعلّمون وجهًا لوجه، قد يختبرون تزامنًا دماغيًّا وانتباهًا أعلى، ممّا يُساهم في تحسين فعاليّة التّعلّم لديهم.

التّواصل النّصّيّ

بالتّوازي مع التّراجع التّدريجيّ في الاعتماد على التّواصل وجهًا لوجهٍ، يزداد التّواصل عبر الرّسائل النّصّيّة، مثل تطبيق واتساب. في هذا السّياق، أَجرى فريق من الباحثين من جامعة رايخمان بحثًا حول ما إذا كانت الرّوابط الاجتماعيّة من خلال الرّسائل النّصّيَّة تُلبّي الحاجة الإنسانيّة “الشّعور بالقُرب”. شملت الدّراسة سبعين ثنائي من الأُمّهات والمراهقين، حيث قارن الباحثون بين تزامن نشاط الدّماغ خلال الرّسائل النّصّيّة والتّواصل وجهًا لوجه. أظهرت نتائج الدّراسة أنّ كلا الرّسائل النّصّيّة والتّواصل وجهًا لوجه، قد أديا إلى تزامن أدمغة الأُمّهات والمراهقين في نطاق موجة بيتا (Beta waves)، الّتي تلعب دورًا في عمليّات الاتّصال، التّعاطف والرّحمة. معَ ذلك، كان التّزامُن أقوى وأطول بشكل ملحوظ في التّواصل وجهًا لوجهٍ، مقارنةً بالتّواصل عبر الرّسائل النّصّيّة.


قد تحدث مزامنة الدّماغ حتّى من خلال وسائِل تواصِل محدودة، مثل الرّسائل النّصّيّة، ولكن بدرجة أقلّ مقارنةً بالاتّصال وجهًا لوجه. من المقال Schwartz, L., et al. Sci Rep 2024

كما تظهر نتائج البحث أنّ مزامنة الدماغ قد تحدث أيضًا عند استخدام وسائل تواصِل محدودة المعلومات والّتي تتضمّن النّصّ فقط، ولكن بدرجة أقلّ مقارنةً بالتّواصل وجهًا لوجه. رغم الفوائد الواضحة للتّواصل عبر الرّسائل النّصّيّة، مثل إمكانيّة تلقّي المساعدة والمشورة عن بُعد في الوقت الفعليّ – استنتج الباحثون أنّ الاجتماعات وجهًا لوجه تخلق شبكة غنيّةً من الرّوابط بين الدّماغيّة، الأمر الّذي لا يتحقّق بنفس الدّرجة عند الاعتماد على الرّسائِل النّصّيّة.

أكّدت الدّراسة أنّ التّواصل من خلال التّكنولوجيا لا يُلبّي بشكل كامل الحاجة الإنسانيّة للتّواصل والعلاقات الاجتماعيّة، وكما كتب الباحثون، قد ندفع ثمنًا عندما نتواصل عبر الرّسائل النّصّيّة بدلًا من التّواصل وجهًا لوجه. نبَّه الباحثون أيضًا إلى أنّ الاعتماد المفرط على الرّسائل النّصّيّة قد يكون ضارًّا، وخاصّة بالنّسبة للمراهقين، الّذين لا تزال أدمغتهم في طور النّموّ والتّغيير.

يبدو أنّ التّواصل الافتراضيّ قد يؤثّر على كلّ من الدّماغ والسّلوك: إذ يؤدّي إلى انخفاض في مستوى تزامُن الدّماغ، سلاسة المحادثة، جودة التّعلّم والقدرة على تفسير الإشارات الاجتماعيّة. مع ذلك، من الجدير بالذّكر أنّ مزامنة الدّماغ تحدث أيضًا في الاجتماعات عبر الإنترنت، وإن كان بدرجة أقلّ.