نحن بطبيعتنا غير بارعين في إنتاج العشوائيّة. يكمن سبب ذلك في جوهر الفكرة نفسها؛ إذ تحدث العشوائيّة بشكل تلقائيّ وغير مقصود، وإذا حاولنا إنتاجها عمدًا، فإنّها تفقد جوهرها وتصبح غير عشوائيّة. إذًا، ما الّذي يمكننا فعله عندما نحتاج إلى الحصول على أرقام عشوائيّة حقيقيّة؟
بحسب منطقنا، فإنّ النّتيجة العشوائيّة هي النّتيجة الّتي لا يمكن التّنبّؤ بها مسبقًا بشكل قاطع. لكن إذا اعتمدنا منظور الفيزياء الكلاسيكيّة ذات الطّابع الحتميّ، والّتي تفترض أنّ لكلّ حدث سببًا واضحًا، فإنّ العشوائيّة الحقيقيّة ليست موجودة فعليًّا في الطّبيعة. فلو أنّنا فهمنا نظريًّا جميع القوانين الّتي تؤثّر في موقف معيّن، وتمكّنا من قياس جميع المُتغيّرات المؤثّرة فيه بدقّة متناهية، لاستطعنا عندها التّنبّؤ بنتيجة أيّ حدث بيقين تامّ. حتّى الفعل الّذي يُجسّد في أذهاننا مفهوم «العشوائيّة»، مثل رمي العملة المعدنيّة، ليس عشوائيًّا بالفعل؛ إذ لو عرفنا الظّروف الدّقيقة للرّمي، والحالة الابتدائيّة للعملة، والمعادلات الّتي تصف القوى المؤثّرة عليها أثناء حركتها، لأمكننا تحديد نتيجة واحدة مؤكّدة لا محالة: إمّا «وجه» أو «ظهر».
مع ذلك، قد تبدو بعض الظّواهر عشوائيّة بالنّسبة لنا، خاصّةً عندما تؤثّر العديد من المتغيرات في النّتيجة، حيث يستحيل عمليًّا أخذها جميعًا في الاعتبار. في حالات أُخرى، قد تكون النّتيجة حسّاسة جدًّا لأدقّ التّغيّرات في المُتغيّرات، لدرجة أنّ أيّ خطأ طفيف في البيانات الّتي يوفّرها جهاز القياس – مثل ساعة التّوقيت أو الميزان أو مقياس الضّغط – قد يؤدّي إلى نتيجة مختلفة تمامًا. بالتّالي، حتّى لو كانت جميع المعادلات لدينا دقيقة، فقد تنحرف توقّعاتنا عن النّتيجة الفعليّة الّتي نحصل عليها. أي أنّ الظّواهر الطّبيعيّة قد تبدو لنا عشوائيّة، بسبب قيود حساباتنا أو محدوديّة البيانات الّتي نمتلكها، لكنّها في حقيقتها ليست عشوائيّة.
من جهةٍ أُخرى، تقدّم ميكانيكا الكم منظورًا مختلفًا، إذ تتعامل مع المقاييس الكموميّة الصّغيرة جدًّا. في هذه الحدود الدّقيقة، البعيدة كثيرًا عن تجربتنا اليوميّة، يصف الفيزيائيّون سلوك الجسيمات على أنّه احتماليّ. على سبيل المثال، لا يمكننا تحديد اللّحظة الدّقيقة التي سوف تتحلّل فيها ذَرّة مُشعّة، وإنّما يُمكننا فقط تحديد احتمال حدوث هذا التّحلّل خلال فترة زمنيّة معيّنة – بغضّ النّظر عن مدى دقّة البيانات المتوفّرة لدينا. بعبارةٍ أُخرى، فإنّ العالم الكموميّ يشتمل على عشوائيّة حقيقيّة.

حتّى الفعل الّذي نربطه عادةً “بالعشوائيّة”، مثل رمي العملة، ليس عشوائيًّا تمامًا. شخص يرمي عملة| Shutterstock, Connect Images – Curated
اختبار العشوائيّة
العشوائيّة خاصّيّة مخادِعة . في الواقع، لا يمكننا التّأكّد تمامًا من أنّ سلسلة معيّنة من الأحداث عشوائيّة. فالسّلسلة العشوائيّة لا تحتوي على أنماط واضحة، لكن عدم اكتشافنا لنمط معيّن لا يعني بالضّرورة عدم وجوده. ربما لم نرَ عددًا كافيًا من الأرقام في السّلسلة لاكتشاف هذا النّمط.
حتّى لو حددنا نمطًا معيّنًا، لا يمكننا الجزم بأنّ السّلسلة الّتي نراها ليست عشوائيّة. على سبيل المثال، إذا ألقينا عملة وسقطت عشر مرات متتالية على نفس الوجه، فقد نشكّ في أنّ النّتيجة ليست عشوائيّة. لكن في الواقع، احتمال حدوث مثل هذه السّلسلة في رميات عشوائيّة لعملة عادلة هو ، أي حوالي 0.097٪، وهو احتمال ضئيل جدًّا لكنّه ليس معدومًا. من المرجّح أن تكون الرّميات غير عشوائيّة، وأنّ العملة تميل للسّقوط على نفس الوجه، لكن لا يمكننا تأكيد ذلك بيقين مطلق. من النّاحية الرّياضيّة، لا يمكننا الجزم بوجود نمط مستمرّ في سلسلة لانهائيّة من الأرقام استنادًا إلى عدد محدود منها.
من الأمثلة الواضحة على صعوبة تمييز العشوائية الحقيقيّة ما يُعرف بمغالطة المقامر، وهي ظاهرة يتعرّف فيها المقامرون على أنماط في سلسلة من الرّهانات، ويعدلون رهاناتهم بناءً على ذلك. على سبيل المثال، إذا اختارت ماكينة الحظّ الرّقم “2” كرقم رابح لخمس مرّات متتالية، فقد يعتقد اللّاعبون أنّه من غير المرجّح أن يظهر الرّقم “2” في الجولة السّادسة، فيراهنون على رقم آخر. في الواقع، في سحب عشوائيّ عادل، لا تعتمد النّتائج على بعضها البعض. وحين يعتقد المقامِرون أنّ النّتائج السّابقة تؤثّر في الجولة القادمة، فهم في الحقيقة ينسبون إلى الآلة افتقارًا للعشوائيّة.
لمواجهة مثل هذه الأوهام الاحتماليّة، يطوّر علماء الرّياضيات مقاييس إحصائيّة تساعد في تقييم مدى قرب سلسلة معيّنة من الأرقام من العشوائيّة الحقيقيّة.

ينتج الرّمي العادل للنّرد سلسلة من الأحداث غير المرتبطة ببعضها. ومع ذلك، يميل المقامِرون إلى الخلط ونسبة السّببيّة إلى ارتباطات بين سحوبات منفصلة. مقامر يرمي نردًا| Shutterstock, serpeblu
“مَهَمَّة مُهِمَّة جدًّا بحيث لا يمكن تركها للصّدفة”
يمكن أن تكون العشوائيّة وسيلة لتحقيق العدالة؛ حيث تُستخدم الأرقام العشوائيّة في السّحوبات والألعاب الّتي تعتمد على الحظّ، لضمان فرص متساوية لجميع المشاركين. كما يمكن للعشوائيّة أن تصف أيضًا العمليّات في الحياة اليوميّة وظواهر الطّبيعة؛ إذ تُدرَس العديد من الظّواهر باستخدام نماذج تعتمد على العمليّات العشوائيّة، حتى لو لم تكن الظاهرة نفسها عشوائية بالضرورة، مثل تقلبات سوق الأسهم أو حركة الجزيئات في الغاز. ولتحليل هذه العمليات، تُستخدم عمليّات مُحاكاة حاسوبيّة تعتمد على أَحداث عشوائيّة، ما يتطلّب توليد سلاسل عشوائيّة موثوقة يمكن الاعتماد عليها في بناء النّموذج.
العشوائيّة أيضًا أداة فعّالة لتسريع العمليّات الحسابيّة. على سبيل المثال، عند تقدير نسبة مشاهدة برنامج تلفزيونيّ في مجتمع كبير، تعتمد الدّراسة على عيّنة عشوائيّة تمثيليّة. إذ يمكن للعيّنة العشوائيّة الصّغيرة نسبيًّا أن تعكس الحالة العامّة للمجتمع بدقّة كافية.
كما تُعتبر العشوائيّة ضروريّة لأمن المعلومات؛ لأنّ التّسلسل العشوائيّ بطبيعته لا يمكن التّنبّؤ به. فإذا أُنشِئت سلسلة من الأرقام أو كلمة مرور بطريقة عشوائيّة تضمن تساوي احتمال اختيار أيّ قيمة، فلن يتمكّن المخترق من تحديد أو تفضيل كلمة مرور معيّنة على غيرها.
وبالمثل، يجب أن تكون مفاتيح التّشفير غير قابلة للتّنبّؤ، لضمان نقل آمن للمعلومات وإتمام المعاملات المالية بشكل آمن . فبعكس الألعاب والمحاكاة البحثيّة، يمكن لأيّ خلل في عشوائيّة كلمات المرور أن يسبّب أضرارًا جسيمة. تخيّل مثلًا ما قد يحدث لو أصبح بالإمكان توقُّع كلمات المرور، الّتي يقترحها «جوجل» عند إنشائِها للمستخدمين.

تساهم العشوائيّة في إبطاء عمليّات اختراق مفاتيح الأمان قدر الإمكان. لهذا السّبب، تطلب بعض الخدمات ألّا تحتوي كلمة المرور على اسم المستخدم، لمنع أيّ إمكانيّة للتّنبّؤ بها. | Shutterstock, StudioGraphic
توليد ما لا يمكن التّنبّؤ به
قال العالم جون فون نيومان (von Neumann)، أحد رواد الحوسبة الإلكترونيّة: “من يحاول توليد رقم عشوائيّ باستخدام وسائل حتميّة يرتكب خطيئة.”
فالحواسيب هي آلات تنفّذ عمليّات وفق ترتيب محدّد مسبقًا. تُكتب البرامج بحيث تؤدّي كلّ عمليّة إلى عمليّة أُخرى، بناءً على قواعد مبرمجة مسبقًا، ممّا يعني أنّه عند طلب إنشاء رقم عشوائيّ، يوجد دائمًا نمط معيّن يُستخدم في إنتاج الرّقم. وإذا كان هناك نمط قائِم، فإنّ النتيجة ليست عشوائيّة تمامًا ويمكن فكّ شفرتها.
يمكن للبرامج الحاسوبيّة إنشاء مولّدات أرقام شبه عشوائيّة (Pseudorandom Number Generators – PRNGs)، حيث تنتج هذه المولّدات سلاسل أرقام تبدو عشوائيّة، لكنّها في الواقع ناتجة عن عمليّات حسابيّة محدّدة. لكي يكون المولّد فعّالًا، يجب أن يكون النّمط الكامن وراء السّلسلة معقّدًا للغاية بحيث يصعب اكتشافه، ويجب أن يكون توزيع الأرقام متساويًا قدر الإمكان لضمان عدم تفضيل رقم معيّن على غيره.
أحد الأمثلة الشائِعة على هذه المولّدات هو البرنامج الّذي يستخدم رقمًا أوّليًّا يُسمّى “البذرة” (Seed)، ثم يُجري عليه سلسلة من العمليّات الحسابيّة مثل الضّرب والجمع، وحساب الباقي باستخدام أرقام محدّدة مسبقًا، ممّا يؤدّي إلى إنتاج الرّقم “العشوائيّ” الأوّل. يختلف هذا الرّقم عن البذرة الأصليّة، بحيث يصعب اكتشاف أيّ نمط واضح. ثمّ يُستخدم الرّقم النّاتج كبذرة للرّقم التّالي، ممّا يخلق سلسلة تبدو غير منتظمة. لكنّ المشكلة تكمن في أنّ هذه المولدات تصبح دوريّة بعد عدد معيّن من التّكرارات، إذ إنّ البذرة الجديدة ستتكرّر في النّهاية، ممّا يؤدّي إلى إعادة الدّورة نفسها بشكل متكرّر.
على سبيل المثال، تمّ اختراق وحدة تحكّم الألعاب PlayStation 3، لأنّ المفتاح العشوائيّ الّذي كان من المفترض إنشاؤه لم يكن عشوائيًّا على الإطلاق، بل كان نفس الرّقم الثّابت يتكرّر. كما تعرّضت محافظ البيتكوين للاختراق بسبب استخدام مولّد أرقام شبه عشوائيّ بشكل غير صحيح، ممّا سمح للهاكرز بتوقّع المفاتيح الخاصّة بالمستخدمين. حتّى أجهزة التّوجيه (Routers) لم تسلم من الهجمات، إذ استُغلت الثّغرات النّاتجة عن “عشوائيّة ضعيفة” في عمليّات الأمان الخاصّة بها.
بالتّالي، فإنّ العشوائيّة ليست مجرّد مفهوم رياضيّ، بل هي عنصر أساسيّ لضمان الأمان الرّقميّ، وتظلّ عمليّة توليد أرقام عشوائيّة حقيقيّة تحدّيًا تقنيًّا مستمرًّا.

قد يبدو النّمط في الصّورة عشوائيًّا للوهلة الأولى، ولكن يمكن التّعرّف على تكرار نمطيّ فيه. | Shutterstock, Dedraw Studio
الاستلهام من الطّبيعة
استحالة إنشاء العشوائيّة الحقيقيّة بالعمليّات المحدّدة مسبقًا
لا يمكن إنشاء عشوائيّة حقيقيّة باستخدام عمليّات محدّدة مسبقًا. مع ذلك، يبدو أنّ الطبيعة تزودنا بالعديد من الظّواهر الّتي يمكننا الاستفادة منها لأخذ عيّنات عشوائيّة.
في الفيزياء، يشير مصطلح “الضّوضاء” إلى ظواهر تؤدّي إلى اهتزازات كثيرة بحيث لا يمكن التعرّف على أيّ نمط أو ترتيب فيها. على سبيل المثال، الضّوضاء الجوّيّة هي اهتزازات لموجات كهرومغناطيسيّة ضمن نطاق موجات الراديو، والتي تنشأ عن عمليّات جوّيّة مثل تفريغ البرق من السُّحب. اندماج العديد من الموجات القادمة من مصادر مختلفة يخلق اهتزازات سريعة تبدو عشوائيّة.
أما الضّوضاء الحراريّة، فهي ناتجة عن اهتزازات الجسيمات الحاملة للشّحنة الكهربائيّة في الموصلات. تنبع هذه الضّوضاء من عدد هائِل من العوامل، حيث يمكن أن يؤدّي أيّ تغيير طفيف في أحدها إلى تغيير جذريّ في طبيعة الضّوضاء نفسها. حتّى يومنا هذا، لا نمتلك أدوات رياضيّة تسمح لنا باستنتاج الصّورة الكاملة لهذه الظّواهر، بسبب تعقيدها الشّديد وحساسيّتها البالغة للتّغيّرات الصّغيرة. لهذا السّبب، يمكننا أخذ عيّنات من هذه الضوضاء في أوقات مختلفة، وتحويل القيم الّتي نحصل عليها إلى أرقام لاستخدامها في توليد أرقام شبه عشوائيّة.
تعتمد الضّوضاء على التّغيّرات الصّغيرة بطريقة تُعرف باسم الخاصّيّة الفوضويّة. تشير الأنظمة الفوضويّة إلى ظواهر حسّاسة جدًّا للتّغيّرات، حيث يؤدّي أيّ تعديل طفيف في أحد العوامل المؤثّرة إلى اختلافات كبيرة في النّتيجة على المدى الطّويل. أحد أبرز الأمثلة على هذا المفهوم هو “تأثير الفراشة”، وهو وصف مجازيّ لحالة يمكن أن تؤدّي فيها خفقة جناحيّ فراشة إلى نشوء إعصار بمرور الوقت. ورغم هذه الحساسيّة الشّديدة، يمكن في بعض الأحيان وصف هذه الظواهر باستخدام معادلات رياضيّة مختصرة ومفهومة.
من الصّعب جدًّا التّنبّؤ بكيفيّة تطوّر الأنظمة الفوضويّة مع مرور الوقت، إذا لم نكن نعرف بدقّة جميع المتغيّرات المؤثّرة فيها، لأنّ أيّ انحراف بسيط في تقييم هذه المتغيّرات يمكن أن يؤدّي إلى تغيير كبير في النّتيجة النهائيّة. لذلك، عندما نرغب في الحصول على رقم عشوائيّ، يمكننا أخذ عيّنات من الحالة الحاليّة لنظام فوضويّ في فترات متباعدة. إذا كانت الفترات الزّمنيّة بين كلّ عيّنة والأخرى طويلة بما فيه الكفاية، فإنّ سلوك النظام يصبح غير متوقّع، ممّا يمنحه مظهرًا عشوائيًّا. لكن في الواقع، هذا النّظام ليس عشوائيًّا تمامًا، بل إنّه فقط غير قابل للتّنبّؤ وفق الأدوات المتاحة لدينا حاليًا.
توجد الأنظمة الفوضويّة حولنا طوال الوقت. حتّى مصابيح الحمم البركانيّة (Lava Lamps)، ذلك العنصر الزخرفيّ الكلاسيكيّ، يمكن استخدامها كمصدر لأخذ عيّنات فوضويّة، تُستخدم في تأمين البيانات المتداولة عبر شبكات الحواسيب. في أحد التّطبيقات، وُضِعَ نحو مائة مصباح حمم أمام كاميرا، وتم تصوير الحركة العشوائيّة للفقاعات الملوّنة داخل المصابيح. وبما أنّ حركة الفقاعات لا تتكرّر بطريقة يمكن التّنبّؤ بها، فقد تمّ تحويل الصّور الملتقطة إلى بيانات رقميّة تُستخدم في إنشاء مفاتيح تبدو عشوائيّة.
يمكننا دائمًا العودة إلى أبسط الطّرق التّقليديّة لتوليد العشوائيّة، مثل رمي النّرد العادل. فإذا قمنا برمي النّرد بشكل متكرّر وبطريقة عادلة، فإنّ الأوجه الّتي سيستقرّ عليها ستوفّر سلسلة من الأرقام العشوائيّة بين 1 وَ6. رغم أنّ هذه الطّريقة بطيئة جدًّا وغير فعّالة في توليد أعداد عشوائيّة، إلّا أنّها تظلّ وسيلة مثاليّة عند مناقشة مفهوم العشوائيّة من الناحية الفكريّة.
في مشروع “الأرقام البطيئة”، اكتشف الفنان نيكولاس سَيينِن (Sanín) طرقًا إبداعيّة لرمي النّرد آليًّا. حيث قام بتركيب حاوية خلط نرد متصلة بجيتار كهربائيّ، بحيث تؤدّي اهتزازات أوتار الجيتار إلى رجّ الحاوية وتحريك النّرد داخلها. بهذه الطّريقة، نشأ نظام فوضويّ خلق مظهرًا شبيهًا بالعشوائيّة.
بهذا، يتبيّن أنّ العشوائيّة يمكن أن تستمدّ من مصادر طبيعيّة وتقنيات حديثة على حد سواء، ممّا يسمح باستخدامها في تطبيقات أمنيّة ورياضيّة متعدّدة.

الحركة السّاحرة لمصابيح الحمم استخدمت لأخذ عيّنات من الحالات العشوائيّة. مصابيح حمم بألوان مختلفة | Shutterstock, Dietrich Leppert
العشوائيّة الكموميّة
حتّى الآن، استعرضنا استخدام التّعقيد الّذي يبدو عشوائيًّا رغم أنّه ليس كذلك في الواقع. لكن هناك طريقة أُخرى للحصول على عشوائيّة حقيقيّة، وهي الاستفادة من العشوائيّة الجوهريّة في ميكانيكا الكمّ. تنظر ميكانيكا الكمّ إلى الجسيمات الدّقيقة على أنّها تتصرّف بشكل احتماليّ، أي لا يمكن التّنبّؤ بسلوكها بدقّة تامّة، بل يمكن فقط حساب احتماليّة وقوع حدث معين. هذه الفكرة أثارت اعتراض ألبرت أينشتاين، الذي قال عنها مقولته الشهيرة: “الله لا يلعب بالنرد.”.
يمكن استخدام السّلوك الكموميّ للفوتونات – جسيمات الضّوء – لأخذ عيّنات من الحالات العشوائيّة الحقيقيّة. كما أنّ الاضمحلال الإشعاعيّ، وهو تحلّل الذّرّات غير المستقرّة إلى عناصر أخفّ، يُعدّ عمليّة عشوائيّة بطبيعتها. لا توجد معادلة تحدّد متى سيحدث التّحلّل التّالي، بل يمكن فقط حساب احتماليّة وقوع تحلّل معيّن خلال فترة زمنيّة معيّنة بعد التّحلّل السّابق. ومن خلال قياس الفترات الزّمنيّة بين التّحلّلات، يمكن استخراج أرقام عشوائيّة حقيقيّة.
حتّى في بيئتنا اليوميّة، يمكننا ملاحظة آثار العشوائيّة الكموميّة. على سبيل المثال، الموز يحتوي على عنصر البوتاسيوم، وبعض نظائره تكون مُشعّة بشكل طبيعيّ. لا داعي للقلق، إذ تشير وكالة حماية البيئة الأمريكيّة إلى أنّنا بحاجة إلى تناول نحو 100 موزة، للوصول إلى مستوى الإشعاع الطّبيعيّ الذي نتعرّض له يوميًا! لكن من منظور علميّ، يمكن استخدام هذه الخاصّيّة لقياس النّشاط الإشعاعيّ في الموز، باستخدام عداد جيجر-مولر المخصّص للكشف عن الإشعاع، ومن ثمّ تحويل هذه القياسات إلى أرقام عشوائيّة تُستخدم في تطبيقات علميّة وتقنية مختلفة. بهذا، يظهر لنا كيف يمكن تسخير ظواهر طبيعيّة مثل السّلوك الكموميّ، والإشعاع في توليد عشوائية حقيقية، ممّا يجعلها أدوات أساسيّة في مجالات مثل التّشفير، أمن المعلومات والمحاكاة العلميّة.
عشوائيّة أم مجرّد نقص في المعرفة؟
العشوائية مفهوم محيّر ولكنّه أيضًا مفيد للغاية. إنّها تتحدّى فهمنا للواقع، حيث نميل إلى الاعتقاد بأنّ لكلّ ظاهرة سببًا واضحًا. عندما ظهرت ميكانيكا الكمّ، دار جدل بين أعظم الفيزيائيّين حول ما إذا كانت العشوائيّة الحقيقيّة موجودة بالفعل، أم أنّنا ببساطة نفتقر إلى المعلومات الكافية، وعندما نحصل عليها، سنتمكّن من تفسير كلّ الظّواهر بشكل حتميّ.
صيغَ هذا الجدل بشكل نظريّ رياضيّ في القرن الماضي، لكنّه لم يُحسم تجريبيًّا إلّا قبل حوالي عقد من الزمن، عندما أظهرت التّجارب أنّ العشوائيّة الحقيقيّة موجودة بالفعل في العالم الكموميّ.
تظلّ العشوائيّة مربكة أيضًا، لأنّه لا توجد لدينا أدوات رياضيّة يمكنها إثبات أو دحض عشوائيّة أي سلسلة أرقام بشكل قاطع. مع ذلك، فإنّنا نعتمد على العشوائيّة في العديد من التّطبيقات اليوميّة، من الأمن السّيبرانيّ إلى التّنبّؤ بالأسواق، وحتّى في فهم الفيزياء الأساسيّة للكون.